فقدان ”إسرائيل“ للاتّزان الاستراتيجي
بقلم: أ. د. محسن محمد صالح، مدير عام مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات.
الجزيرة. نت
30/11/2025
تُعاني "إسرائيل" حالة من فقدان الاتّزان الاستراتيجي، قد تتحوّل إلى خطَر وجودي. وهي حالة برزت، خصوصاً منذ تشكيل حكومة الليكود بالتحالف مع الصهيونية الدينية، في نهاية 2022، ومنذ طوفان الأقصى.
هذا الفقدان يُعَبّر عن إشكاليّة بنيويّة داخلية وخارجية، يصعب الخروج منها؛ بسبب طبيعة المجتمع الصهيوني، وسيطرة اتجاهات يمينيّة ودينيّة متطرّفة على منظومة الحُكم في "إسرائيل".
على مدى عشرات السنين، تمكّنت "إسرائيل" من إدارة حالة الاختلاف الديني والعِرقي والثقافي لدى التجمّع الاستيطاني اليهودي الصهيوني داخلها بالكثير من الكفاءة، وتمكّنت من تشكيل منظومات مؤسسيّة تشريعية وسياسية وقضائية حديثة فعّالة، سهّلت عليها تجاوز العديد من الأزمات والتناقضات الداخلية. غير أن السنتين الماضيتين كانتا حاسمتين في إفقادها الاتّزان.
إن فقدان الاتّزان الاستراتيجيّ الذي نتحدّث عنه، يُشير إلى أن دولة أو جهة ما أصبحت غير قادرة على الحفاظ على استقرار استراتيجيّ طويل المدى؛ بسبب اختلال حساباتها وسوء تقدير إمكاناتها، بحيث تدخل في حالة اضطراب مستمر، تجعلها غير قادرة على التكيّف أو اتخاذ قرارات صائبة فعّالة، ممّا يُفقِدها البوصلة، ويتسبّب بنتائج كارثيّة.
فقدان الاتّزان أخطر من فقدان التوازن الاستراتيجي
من ناحية استراتيجيّة موضوعيّة، فإنّ فقدان الاتّزان الاستراتيجي Strategic Disequilibrium أخطَر من فقدان التوازن الاستراتيجي Loss of Strategic Balance؛ ذلك أن فقدان التوازن الاستراتيجيّ يُعَبّر عن اختلال ميزان القوى أو القدرات أو المَوارِد بين طرَفيْن أو أكثر، بحيث يُصبح أحد الأطراف قادراً على فَرْض إرادته على خصومه أو مُنافِسيه؛ كما حدَث مثلاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وقيادة الولايات المتحدة نظاماً أحاديّ القطبيّة. وهذا قد يتم تعويضه مع الزمن بتعزيز القوى وتوسيع التحالفات، والحصول على إمكانات وأسلحة نوعيّة. أما فقدان الاتزان الاستراتيجي، فجوهره خلَل ذاتي لدى صانع القرار، وفي بنية الدولة ومؤسّساتها، وفي رؤاها ومساراتها الاستراتيجيّة الكبرى.
وهو ما قد يُدخِلها في حالة من التخبّط السياسي والاقتصادي والأمني والاجتماعي، وما قد يتسبّب في صراعات داخلية، والدخول في صراعات خارجية أكبر من إمكاناتها، وفي غير وقتها. بمعنى أن قيادة الدولة أو منظومتها الحكومية تُمارِس عملية "تدمير ذاتي"، يصعب تجاوز نتائجه الكارثيّة.
عقليّة فاقدة للاتّزان الاستراتيجي
يستطيع نتنياهو وفريقه الحاكِم أن "يمدّ رجلَيه" هذه الأيام، بعدما استنقَذته الولايات المتحدة من "مُستنقع غزة"، واستَصدَرت قرار مجلس الأمن الدولي بشأن اليوم التالي لمستقبل قطاع غزة؛ كما يستطيع أن يعيش حالة زَهو، وهو يرى جيشه يفرض غطرسته في لبنان وسوريا والمنطقة، ويرى الأنظمة العربية والإسلامية تتبنّى الرؤية الأميركية - الإسرائيلية في نزع أسلحة حماس والمقاومة، وتحييدها من النظام السياسي الفلسطيني.
بَيْدَ أن كلّ ذلك لن يفكّ عقدة فقدان الاتّزان الاستراتيجي لديه، ولدى نظامه السياسي؛ ذلك أن جوهر طبيعة العقلية الصهيونية الإلغائية الانعزالية المُستَعلِية على الآخر؛ والقائمة على الهيمَنة والقوّة؛ تُفقِده القدرة على التفكير المُتّزن، فتتأرجَح بين المُبالَغة في تضخيم أو تقليل الإمكانات الذاتيّة أو إمكانات الآخرين؛ وتميل إلى الركون إلى أيديولوجيا ذات خلفيّات دينيّة أو ثقافيّة، تؤدّي إلى سوء إدراك الذات والآخرين.
كما أن شعورها الذاتي التاريخي العميق بعدم الأمان وعدم الثقة بالآخرين وعداوتهم، يتسبّب بقرارات وتوجّهات خاطئة، ويجعلها تفرض على الآخرين شروطاً مُذِلّة وغير مُتكافئة، بشكلٍ يجعل التعايش الطبيعي مستحيلاً.
وقد جاء تشكيل حكومة نتنياهو الأخيرة، وما حَمَلَته من أجندات داخلية، وتجاه قضية فلسطين والمنطقة، ليُشَكّل قفزة كبيرة باتجاه فقدان الاتّزان الاستراتيجي.
وتنطبق نظريّة سوء الإدراك ،Misperception Theory التي يُعَدّ روبرت جيرفس Robert Jervis أبرز مُنَظّريها، على الحالة الإسرائيلية؛ إذ تؤكّد أن إساءة فهم نوايا الخصوم أو تقدير قوّتهم، أو قراءة المؤشّرات الاستراتيجيّة بشكل خاطئ، وتؤدّي لقرارات وتصرّفات سلبيّة، قد تنعكس بشكل مُدَمّر على صاحب القرار.
مظاهر فقدان الاتّزان الاستراتيجي
يمكن تلخيص مظاهر فقدان الاتّزان الاستراتيجي الإسرائيلي بما يلي:
.1كشفت الاحتجاجات الواسعة سنة 2023، خصوصاً ضدّ التعديلات القضائية، مدى الانقسام السياسي والمجتمعي، وهشاشة العقد الاجتماعي للمجتمع الصهيوني، بين التيّارات العلمانيّة والدينيّة؛ وكشفت عن حالة التنازع في التصوّرات المتعلّقة ببُنية الدولة ومَساراتها. وظهَرت بعض تجلّيات هذه الأزمة في موضوع تجنيد اليهود المتديّنين "الحريديم"، لدرجة انسحاب وزراء شاس ويهوديت هتوراة من الحكومة في منتصف يوليو/تمّوز 2025.
.2أزمة القيادة والصراع أو التنازع بين الحكومة والجيش والشاباك والسلطة القضائية، بشكل غير مسبوق، خصوصاً في أثناء السنتين الماضيتين خلال معركة طوفان الأقصى؛ بما في ذلك إقالة أو استقالة وزير الدفاع يوآف غالانت، ورئيس الأركان هرتسي هاليفي، ورئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي، ورئيس الشاباك رونين بار، والمُستَشارَة القضائية للحكومة غالي بهراف- ميارا؛ وتَضارُب التصوّرات تجاه تحرير الأسرى الصهاينة، واليوم التالي لقطاع غزة، والتحكّم في معبر رفح وممر صلاح الدين (فيلادلفيا) وغيرها.
كما أن التنازع في الرؤية أدّى لانسحاب بيني غانتس (رئيس أركان الجيش الإسرائيلي السابق) وحزبه أزرق أبيض (أو الوحدة الوطنية) من الحكومة، بعد نحو ثمانية أشهر من المُشارَكة فيها.
3 .التناقض البنيوي بين الرغبة الأيديولوجية بالتوسّع الاستيطاني والهيمنة الإقليمية، وبين الحاجة الاستراتيجيّة للاستقرار، وإيجاد بيئات مناسبة للتسوية السياسية والتطبيع.
إذ إن مشاريع تهويد الأقصى والقدس وضمّ الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين، و"إسرائيل الكبرى"، واحتلال أراضٍ لبنانية وسورية، وغطرسة القوّة، كلّها عناصر تفجير في المنطقة، وهي تدفع الفلسطينيين نحو المقاومة المسلّحة؛ وأيضاً شعور دول المنطقة وشعوبها بمخاطر حقيقية على أمنها القومي ومصالحها العليا، وبعدم جديّة الطرَف الإسرائيلي بالتعايش السلمي المُتَكافئ؛ ممّا يتسبّب بزيادة بيئة العداء لـ"إسرائيل"، وبفشل مشاريع التطبيع، وإيجاد مناخات أقوى لاستئناف مشاريع المقاومة والمواجهة، وانكفاء "إسرائيل" على نفسها.
4.تراجع الثقة بالحكومة والجيش بشكل كبير، وفقدان جزء كبير من "الشرعية الداخلية"، وفوز المعارضة في معظم استطلاعات الرأي طوال العاميْن الماضييْن.
5 .فشل منظومة الردع التقليدي التي قامت عليها "إسرائيل" منذ إنشائها، وتَبني منظومة ردع جديدة قائمة على الردع الاحترازي المباشر، واستخدام القوّة الخشنة والتدمير الواسع، وتنفيذ الإبادة الجماعيّة، أدّت كلّها لإسقاط صورة "إسرائيل" ككيان مُتّزِن، وكشفت عن طبيعة لا يمكن التعايش معها.
كما أن فشل كافّة وسائل الردع، وصمود المقاومة حتى نهاية المعركة، أوجَد "عقدة" أفقَدت منظومة الحُكم الإسرائيلي اتّزانها، بعد أن استنفدَت أدواتها دونما جدوى في مُحاوَلات اجتثاث المقاومة.
6 .يفتَخر نتنياهو بوجود سبع أو ثماني جبهات للمواجهة، غير أن هذا التعدّد يتسبّب في حالة إنهاك عسكري واقتصادي، ويُفقِد الكيان حالة الاتّزان والتوازن؛ خاصّة أن تعدّد الجبهات وتَمدّدها overstretching عادة ما يكون سبباً رئيسياً في سقوط الدول والإمبراطوريات.
.7أساءت منظومة الحُكم الإسرائيلية تقدير قدرات حماس والمقاومة، وقلّلت من خطورة قدرتها على الصمود عامَيْن مُتَواصِليْن، واعتمَدت فرضيّات أمنيّة ثبُت خَطَؤها، وسقطت نظريّتها أن "ما لا يتحقّق بالقوّة يمكن أن يتحقّق بمزيد من القوّة". وأدّت عمليّاتها إلى نتائج عكسيّة زادت من التعاطف مع الشعب الفلسطيني ومع المقاومة، ورفعَت حالة الغضب ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.
8 .أدّى فقدان "إسرائيل" للاتّزان الاستراتيجي إلى تراجع الدعم الشعبي والرسمي العالمي، وإلى سقوط السرديّة الإسرائيليّة، وسقوط شعارات "الدفاع عن النفس" و"واحة الديمقراطية" و"احتكار الضحيّة" و"العداء للسامية".. وإلى عزلة إسرائيلية عالميّة غير مسبوقة، وتحويل "إسرائيل" إلى محكمة العدل الدولية، مع توسّع دائرة التعاطف مع الشعب الفلسطيني، والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
دور المقاومة الفلسطينية
لعبت المقاومة الفلسطينية، خلال معارك طوفان الأقصى، في العاميْن الماضييْن، وخصوصاً حماس، دوراً مهماً في الدفع باتجاه فقدان "إسرائيل" لاتّزانها الاستراتيجي.
فقد نجحت في ضرب منظومة الردع الإسرائيلي وتآكلها، ومثّلت عامل إنهاك عسكري واقتصادي واجتماعي وسياسي طويل المدى؛ فأربَكت صانع القرار الإسرائيلي وأجبَرته على الانتقال من التخطيط الاستراتيجي إلى "إدارة الأزمات"، والعمل تحت الضغط، والانشغال بـ"إطفاء الحرائق".
وأصبحت المقاومة عاملاً إقليمياً ودولياً ضاغطاً. وكشفت هشاشة الوضع الداخلي، وسوء الإدراك لدى القيادة الإسرائيلية. ولو تابع نتنياهو وفريقه المعركة لمحاولة الوصول إلى نهاية حاسمة، لتزايدت أزماته الداخلية والخارجية، حيث لا يوجد أفُق لهزيمة المقاومة، بينما كان بطشه بالمدنيين وحملات التجويع والتهجير والتدمير، يتسبّب بمزيد من السخط والغضب، وبتوسيع دوائر الضغوط والعقوبات الدولية ضدّه.
خطّة ترامب طوْق نجاة
كان ترامب مُحِقاً عندما ذكَر أن الحرب "جعلت إسرائيل في أسوأ وضع دولي، وأنه يريد إعادة إسرائيل إلى مَكانتها"، بينما ذكَر محلّل الشؤون الحزبية في صحيفة هآرتس، يوسي فيرتر، بأن ترامب " أنقَذ إسرائيل من الانتحار السياسي". إذ إنها عملياً كانت قد فقدت اتّزانها وقدرتها على اتخاذ قرارات صحيحة.
خطّة ترامب لليوم التالي لغزة (30 سبتمبر/ أيلول 2025)، وقرار مجلس الأمن الدولي 2803 (17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2025)، قدّمت الطرَف الإسرائيلي كطرَف مُنتصر، وأعطت غطاءً عالمياً لشكل استعماري جديد على الشعب الفلسطيني، يقوم بتنفيذ الأجندة الإسرائيلية بنزع أسلحة المقاومة وتأمين الاحتلال، ويُخَفّف الضغط الدولي على "إسرائيل"، ويُقَلّص الإنهاك العسكري والأمني الاقتصادي والبشري الإسرائيلي.
قراءة مستقبلية
أعطى وقف الحرب في قطاع غزة، وقرار مجلس الأمن بشأن إدارة القطاع للعاميْن القادميْن، مَخرَجاً جزئياً للاحتلال الإسرائيلي، لكنه لم يَحلّ مشاكل "إسرائيل" كلّها، إذ إنّ العناصر الفعّالة في إشكاليّة "فقدان الاتّزان الاستراتيجي" ظلّت قائمة.
فما زال الطرَف الإسرائيلي يُعاني من سوء إدراك طبيعة الشعب الفلسطيني، وطبيعة المنطقة وشعوبها، وعمقها الديني والحضاري والتاريخي، وإيمانها الراسخ بحقوقها، وقدرتها على الصمود والتجدّد والنهوض.
نحن أمام ثلاثة مسارات مستقبلية مُحتَمَلَة:
الأوّل: أن يَستَعيدَ الطرَف الإسرائيلي الاتّزان جزئياً، بالاستفادة من وقف الحرب ودعم الإدارة الأميركية وخطّة ترامب، وحالة الهيمنة الإقليمية التي يُشَكّلها؛ بحيث يتمكّن من عمل انتخابات الكنيست وتشكيل حكومة جديدة، وإعادة ترتيب العلاقات بين الحكومة والجيش والسلطة القضائية، وتخفيف الانقسام الداخلي، والتوصّل إلى تفاهمات إقليميّة وتحقيق اختراقات في مسار التطبيع، بما يُوَفّر له هامش مناورة أكبر.
غير أن هذا "الاتّزان" سيظلّ هشاً؛ لأن العقليّة الإسرائيليّة الحاكِمة غير قادرة وغير راغبة في تقديم تنازلات حقيقية للشعب الفلسطيني، وتصر على علاقات تطبيع قائمة على الهيمنة وليس التكافؤ؛ بالإضافة إلى التأثير العميق والجرح الغائر الذي أحدَثه العدوان على غزة.
الثاني: استمرار فقدان الاتّزان في شكله الحالي؛ نتيجة الانقسام الداخلي الإسرائيلي وتراجع البنى المؤسّسة لـ"الدولة"، واستمرار القراءة الخاطئة للخصوم وللبيئة الاستراتيجيّة، ومُمارَسة سياسات عدوانيّة، تؤجّج مشاعر السخط والغضب، وتوجِد أرضيّات قويّة للتغيير واستئناف مسار المقاومة، مع تآكل منظومة الردع الإسرائيلي.
الثالث: انهيار واسع للاتّزان الاستراتيجي، نتيجة تسلّط تيّارات الصهيونية الدينية والقوميّة المتطرّفة، وترك أعداد كبيرة من العلمانيين لـ"إسرائيل"؛ والوقوع في قرارات خاطئة متعلّقة بتوسيع الحرب وأدوات النفوذ المباشر في المنطقة، بما يُسقِط مَسارات التطبيع، ويُوَسّع دائرة الصراعات، ويوقِع الكيان في حالة استنزاف وإنهاك تتجاوز قدراته، مع تراجع الولايات المتحدة والغرب عن الرغبة في تمويل "إسرائيل" وحروبها والتغطية على حماقات قياداتها.
وتتراوح الخيارات المُرَجّحة بين الخيارين الأوّل والثاني. وربما يكون لنتائج الانتخابات الإسرائيلية القادمة دور مهم في ترجيح أحدهما على الآخر. أما الخيار الثالث، فما زال مُستَبعداً، ولكنه احتمال قد يقوى على المديين الزمنيَين الوسيط والبعيد.
وعلى كلّ حال، فالنظام السياسي الإسرائيلي وعقليّته الأيديولوجيّة، تجعله كياناً يفتقد إلى الاتّزان الاستراتيجي. كما أن أزمات البنية المؤسسيّة، وهشاشة منظومة الردع والسيطرة، ستحمل عناصر تفجير مُحتَملة.
ولذلك، فإن ما نشهَده من شعور بالنشوة في إثر الحرب على غزة، إنما هو "استراحة" مؤقّتة، تتميّز بالهشاشة، وستنكشف (غير بعيد) على حالة من اللااستقرار الاستراتيجي المُزمِن والمُتَواصِل.
2025-12-17 08:20:16 | 19 قراءة