التصنيفات » مقالات سياسية

الصفقة المتوقّعة: سيناريوهات أزمة الإنفاق العسكري بين واشنطن ومدريد

الصفقة المتوقّعة:
سيناريوهات أزمة الإنفاق العسكري بين واشنطن ومدريد

21  نوفمبر، 2025

بهاء محمود
باحث بمركز الأهرام للدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة 
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة

أكّد رئيس وزراء إسبانيا، بيدرو سانشيز، في 9 نوفمبر 2025، مُعارَضته جعل أوروبا قارّة مُسَلّحَة بالكامل. ورداً على تصريحات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، التي هدّد فيها إسبانيا بفرض عقوبات عليها لعدم زيادة إنفاقها العسكري إلى 5% من الناتج المحلّي الإجمالي؛ قال سانشيز إن حكومته "لا تُخَطّط لتجاوز نسبة 2% من الناتج المحلّي للإنفاق العسكري"، مُضيفاً: "نحن ندعم الناتو؛ لكنّنا لا نقبل أن تُقاس الولاءات بالإنفاق العسكري وحده".
وكان ترامب قد هدّد إسبانيا مؤخّراً بطردها من حلف شمال الأطلسي" الناتو" أو فَرْض رسوم جمركيّة على بضائعها، وذلك نظَراً لتخلّفها عن الالتزام برفع الإنفاق العسكري إلى نسبة 5%. وجاءت تهديدات ترامب على الرّغم من أن بعض دول الحلف لم تلتزم حتى الآن أيضاً بنسبة الإنفاق العسكري المُتّفَق عليها في قمّة ويلز عام 2014، والمحدّدة عند 2% من الناتج المحلّي الإجمالي. وتُمَثّل هذه التهديدات تحدّياً رئيسياً أمام حكومة سانشيز اليساريّة، التي ما زالت تعمل بميزانيّة 2023 للعام الثالث على التوالي، وسط تأكيدها ضرورة الالتزام بدولة الرّفاه على حساب زيادة الإنفاق العسكري إلى النسب التي يطرحها ترامب داخل "الناتو".

تهديدات واشنطن:
عُقِدَت في لاهاي بهولندا، يومي 24 و25 يونيو 2025، قمّة حلف "الناتو"، حيث طالب الرئيس ترامب دول الحلف بزيادة إنفاقها العسكري إلى 5% خلال مدّة ما بين 7 و10 سنوات. وبحسب البيان الختامي للقمّة، تعهّد أعضاء "الناتو" بتخصيص 5% من ناتجهم المحلّي الإجمالي لصالح الدفاع، على أن تُقسَم النسبة بين 3.5% للإنفاق العسكري المباشر، و1.5% لبنود أخرى مثل (الأمن السيبراني، والبنى التحتيّة الحيويّة، وغيرها من أوجه الإنفاق الدفاعي غير المباشر).
وخلال قمّة لاهاي، أعلَنت إسبانيا أنها لن تتمكّن من الوفاء بهدف "الناتو" الجديد، وستكتفي بالوصول إلى نسبة 2% من الناتج المحلّي الإجمالي المُتّفَق عليها في قمّة ويلز عام 2014، والتي كان من المُفتَرض أن تصل إليها دول الحلف في عام 2024. ولم تتخطّ نسبة إنفاق مدريد الدفاعي خلال العام الماضي 1.28% من الناتج. ومنذ انعقاد قمّة لاهاي، انتقَدت الإدارة الأمريكية، وعلى رأسها ترامب، موقف حكومة إسبانيا من رفع الإنفاق العسكري؛ وتطوّر الانتقاد إلى مُقتَرَح بطرد إسبانيا من "الناتو"؛ حيث وصَف ترامب إسبانيا بالعضو المُتَقاعِس الذي يجب طرده من الحلف، وحثّ الأوروبيين على إقناع مدريد بضرورة تعزيز التزاماتها تجاه "الناتو". وفي سياق الضغط على إسبانيا لرفع الإنفاق العسكري، طرَح ترامب خيارين لواشنطن، هما:
1- الرسوم الجمركيّة: صرّح ترامب بإمكانيّة فرض رسوم جمركيّة على إسبانيا تزيد على بقيّة الدول الأوروبية الأخرى، وذلك على غرار ما حدَث خلال إدارته الأولى، عندما فرَض رسوماً بنسبة 30% على الزيتون الإسباني بناءً على طلَب مُزارِعي الزيتون في كاليفورنيا؛ لتتراجع حصّة الصادرات الإسبانية من الزيتون في السوق الأمريكية من 49% في عام 2017 إلى 19% في عام 2024. 
وبحسب بيانات الأمم المتحدة للتجارة الدولية، صَدّرت إسبانيا إلى الولايات المتحدة ما قيمته 18.44 مليار دولار في عام 2024، فيما بلغت وارداتها خلال العام نفسه 29.33 مليار دولار؛ ومن ثمّ تخشى الأوساط الاقتصادية في مدريد من احتماليّة فَرْض رسوم كبيرة على السلع الإسبانية؛ وبالتالي تَعَرّض الاقتصاد الإسباني لخسائر، وذلك على الرغم من توصّل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى اتفاق تجاري في يوليو 2025؛ وهو ما يجعل المفوّضيّة الأوروبيّة تُصبِح طرَفاً في حالة فرض رسوم جمركيّة من قِبَل ترامب على السلع الإسبانية؛ لذا صرّحت المتحدّثة باسم المفوّضيّة الأوروبية، أولوف جيل، بأن "السياسة التجارية تقع ضمن اختصاص بروكسل، وأن المفوّضيّة ستستَجيب بشكل مُناسب"؛ وهو ما يعني أنّ أيّ إجراءات عقابية اقتصادية من قِبَل إدارة ترامب ضدّ مدريد يَلزمها حماية وتضامن من جانب الاتحاد الأوروبي.
2- القواعد العسكرية: يطرح ترامب، منذ مجيئه في 20 يناير 2017، وطوال فترته الرئاسيّة الأولى، وكذلك منذ عودته في 20 يناير 2025؛ مُقارَبة مفادها: "الحماية الأمريكية مقابل رفع الإنفاق العسكري لحلف الناتو"، أو ما يُسَمّى بتقاسم الأعباء. وفي هذا السياق، حاول ترامب خلال ولايته الأولى تقليص وجود القوّات الأمريكية في ألمانيا ونقلها إلى قواعد عسكرية في دول أخرى. 
وعلى النهج نفسه، يُهَدّد الرئيس الأمريكي بورقة القواعد العسكرية في أوروبا، ولا سيّما تلك الموجودة في إسبانيا، حيث تمتلك واشنطن قاعدتين عسكريتين، إحداهما قاعدة "مورون" الجويّة جنوب إشبيلية، والثانية "روتا" البحريّة في جنوب غرب الأندلس. ولهاتين القاعدتيْن أهميّة اقتصادية لإسبانيا؛ حيث يُسهِم وجود قاعدة "روتا" في توفير 9500 فرصة عمل مباشرة وغير مباشرة، ونحو 250 مليون يورو عائدات للاقتصاد المحلّي. وفي المقابل، هناك أهميّة استراتيجيّة لهذه القواعد لصالح حلف "الناتو" والولايات المتحدة؛ فهي بمثابة درع صاروخي للحلف؛ كما أنها قريبة من مضيق جبل طارق الذي يُعَدّ أحد أهم الممرّات البحريّة في العالم.
رفض مدريد:
يتولّى الاشتراكي سانشيز رئاسة الحكومة الإسبانية منذ عام 2018؛ وهو ما جعَله يُعاصِر ثلاث إدارات أمريكية ما بين فترتين لترامب الجمهوري وفترة لجو بايدن الديمقراطي. وعلى مَدار السنوات الماضية، يمكن مُلاحَظة نمط واضح في التعامل بين إسبانيا والولايات المتحدة. فالتوتّر، على سبيل المثال، يرتفع في عهد الجمهوريين وينخفض في عهد الديمقراطيين. وتدلّ على ذلك مؤشّرات عدّة، منها أزمات الرسوم الجمركيّة ومبيعات الأسلحة الأمريكية. ففي حين بلغت مُشتَرَيات إسبانيا الدفاعية من الولايات المتحدة 140 مليون دولار في 2020، وهو العام الأخير من فترة ترامب الأولى؛ ارتفعت صادرات الأسلحة الأمريكية إلى إسبانيا في عهد بايدن من 186 مليون دولار في عام 2021 إلى 2.907 مليار دولار في عام 2024، وفقاً لوكالة التعاون الأمني الدفاعي الأمريكية DSCA
وفي هذا الإطار، يُثار التساؤل عن دوافع اعتراض مدريد على زيادة الإنفاق الدفاعي، بالرّغم من أن قمّة لاهاي وضعت جدولاً زمنياً للوصول إلى نسبة 5% من الناتج المحلّي بحدٍ أقصى عام 2035؛ وهو ما يمنَح دول "الناتو" مدّة زمنيّة للاستثمار في ميزانيّات الدفاع بالتدريج، وليس بشكل فوري، أو حتى رهن الزيادة بفترة ترامب (2025-2029). كما أن ترامب لا يستطيع البقاء لمدّة رئاسيّة أخرى بعد عام 2029؛ وربما لا يسير من يخلفه على النهج نفسه. ومن جانب آخر، فإنّ بقاء سانشيز (أو اليسار بصفة عامّة) ليس مضموناً في إسبانيا؛ ومن ثم يمكن استعراض أهم الأسباب الأخرى لموقف إسبانيا كما يلي:
1- حكومة غير مستقرّة: تُواجِه حكومة سانشيز عدّة تحدّيات داخلية، في مقدّمتها أنها حكومة أقليّة لم تستطع تمرير ميزانية الدولة لعامي 2024 و2025، وما زالت تعمل بميزانيّة عام 2023؛ ومن المرجّح أن تستمرّ للعام الثالث بالميزانية نفسها. ويتحفّظ تحالف "سومار" اليساري المتشدّد، الشريك الأصغر في الحكومة، على رفع الإنفاق العسكري، ويُفَضّل توجيه المَوارِد الاقتصادية نحو الخدمات العامّة والمزايا الاجتماعية للمواطنين بدَلاً من اقتطاع أموال إضافيّة على حساب الطبقات المتوسّطة. وتُسانِد هذا الطرح أيضاً الأحزاب الإقليمية والمحلية في كتالونيا وإقليم الباسك، التي تدعم بقاء حكومة سانشيز.
2- اختلاف المُهَدّدات: تتبنّى إسبانيا تصوّراً أمنياً مُغايراً للرؤية الأمريكية؛ حيث ترى مدريد أن التحدّيات الأمنيّة القادمة من الجوار الجنوبي (البحر المتوسّط) من خلال الهجرة غير الشرعية، والإرهاب المُرتَبِط بالساحل الإفريقي؛ أكبر من التحدّيات المتعلّقة بالحرب في أوكرانيا البعيدة جغرافياً عن حدود إسبانيا. وبالتالي، الأفضل (من وجهة نظَر مدريد) عدم الانخراط أكثر في الصراعات المسلّحة، ولا سيّما مع روسيا. كما أن التجربة السابقة في حرب العراق، حين وافقت الحكومة الإسبانية آنذاك على الدخول في التحالف مع الولايات المتحدة بالرغم من عدم قبول ذلك شعبياً عام 2003؛ أدّت إلى تضرّر البلاد من الحوادث الإرهابية، مثل تفجيرات قِطارات مدريد عام 2004؛ ومن ثمّ هناك تصوّر إسباني يحول دون التبعيّة المطلقة لواشنطن، ولا سيّما في الإنفاق الدفاعي والصراعات المسلّحة.
وفيما يتعلّق بالحرب الأوكرانية، ترى إسبانيا أنها أدّت دورها في هذا الشأن. فقد دَرّبَت نحو 7 آلاف جندي أوكراني، واستضافت نحو 248 ألف لاجئ، لتصبح الدولة الخامسة على مستوى أوروبا من حيث استقبال اللاجئين الأوكرانيين بعد ألمانيا وبولندا والتشيك وبريطانيا على الترتيب. كما أنفقت مدريد على اللاجئين من أوكرانيا خلال الفترة من 2022 وحتى 2024 نحو 8.2 مليار يورو، بخلاف المساعدات الماليّة الأخرى غير المرتبطة باللاجئين.
3- الاستقلال الأوروبي: يُنظَر داخل إسبانيا إلى أن زيادة الإنفاق العسكري لنسبة 5% من الناتج المحلّي تعني بالضرورة توجيه تلك الزيادة لصالح المُشتَرَيات العسكرية من الولايات المتحدة؛ وهو ما يؤثّر سلباً في الاستقلال الاستراتيجي لأوروبا، التي تضطر هنا للاعتماد على السلاح الأمريكي بصورة أكبر.
سيناريوهات مُحتَملة:
في ضوء المعطيات السابقة، يمكن رسم عدد من السيناريوهات المُحتمَلة للتوتّر بين إسبانيا والولايات المتحدة، والإجراءات الأقرب اتّباعها في أزمة رفع الإنفاق العسكري، كما يلي:
1- تصاعد التوتّر: يتمثّل أشدّ السيناريوهات صعوبة في فَرْض ترامب ضرائب مرتفعة على إسبانيا تتخطّى النسب المُتّفَق عليها في الاتفاق التجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي من شأنها أن تؤثّر في العلاقات ليس فقط بين واشنطن ومدريد، بل مع الاتحاد الأوروبي، الذي يُرَجّح أن يتّخذ إجراءات مضادّة تخرق اتفاق التجارة بين الطرَفيْن. ويرتبط الجانب الثاني من تهديدات ترامب بنقل القواعد العسكرية الأمريكية من إسبانيا إلى بلَد آخر؛ وهو إجراء من شأنه تعقيد العلاقات بين واشنطن ومدريد. أما فيما يتعلّق بعضويّة إسبانيا في "الناتو"، فليس هناك سلطة قانونية أو إجرائية لدى واشنطن لطرد عضو من الحلف أو حتى التصويت على ذلك، فهو أمرٌ غير مُتّبَع وغير مَنطِقي.
2- تنازلات محدودة: أعلنَت إسبانيا، في إبريل الماضي، تخصيص ما يُقارِب 10 مليارات يورو استثمارات دفاعية؛ لتُسهِم في بلوغ الإنفاق العسكري نسبة 2% من الناتج المحلّي الإجمالي، مع مُوافقتها على الاشتراك في مبادرة "قائمة متطلّبات أوكرانيا ذات الأولويّة" PURL، التي تضمن بالتبعيّة شراء أسلحة أمريكية لصالح كييف. كما كشَف رئيس الوزراء، سانشيز، يوم 18 نوفمبر الجاري، عن مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بقيمة 615 مليون يورو اعتباراً من الشهر المقبل، لدعم المجهود الحربي لكييف.
3- توافُق الرؤى: ثمّة طَرْح ثالث يُعيد صياغة العلاقات بين إسبانيا والولايات المتحدة وفق تصوّر أمني يُقَرّب واشنطن؛ ومن ثمّ حلف "الناتو"، من التهديدات الأمنيّة التي ترغب مدريد في التركيز عليها أكثر، سواء الهجرة غير الشرعية أم مكافحة الإرهاب القادم من منطقة الساحل والشرق الأوسط، وتغيير نظرة واشنطن السلبية تجاه مدريد من دولة متخلّفة عن الإنفاق العسكري وحلف "الناتو" إلى شريك موثوق به.
إجمالاً، يمكن القول، من واقع المُعطَيات السابقة وطبيعة تفكير الإدارة الأمريكية في عهد ترامب، إن واشنطن أقرَب حالياً إلى تحقيق أكبر مَكاسِب اقتصادية عبر العلاقات الثنائيّة مع الدول على حساب الاتفاقيّات الدولية والشراكات الكبرى؛ لذا يُعَدّ السيناريو الأقرب هو الهدوء النسبي وتراجع واشنطن عن فرض رسوم جمركيّة مرتفعة على إسبانيا، في ظلّ ارتفاع الإنفاق العسكري لمدريد في عام 2025 إلى 2%، مع العِلم أن هناك دُوَلاً في "الناتو" لم تصل إلى النسبة بعد، ومن بينها إيطاليا؛ وكذلك تخصيص إسبانيا استثمارات دفاعيّة سوف يُوَجّه جزء منها لشراء الأسلحة الأمريكية، ربما بنِسَبٍ وقِيَمٍ تتخطّى مُشتَرَيات إسبانيا في 2024؛ وهو العام الأكبر في قيمة صادرات الأسلحة الأمريكية إلى مدريد.

2025-12-08 08:27:39 | 27 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية