التصنيفات » مقالات سياسية

الاتجاهات الرئيسية: ملامح سوق تخزين النفط بالعالَم في ظلّ النظام الدولي الراهن

الاتجاهات الرئيسية:
ملامح سوق تخزين النفط بالعالَم في ظلّ النظام الدولي الراهن

21  نوفمبر، 2025
إبراهيم الغيطاني
رئيس برنامج دراسات الطاقة
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة

شهد العالم سلسلة من التطوّرات المُتسارعة بالأعوام الأخيرة، كجائحة كورونا والحرب الروسية - الأوكرانية وتصاعد الصراع بالشرق الأوسط، ممّا صعَد بقضية تأمين احتياطيّات السلع الأساسيّة (خاصّة الطاقة) إلى سُلّم أولويّات العمل الحكومي حول العالم. وأسفرت تلك الأزمات عن تعطّل سلاسل التوريد وتزايد الانقسام التجاري وتشرذم الاقتصاد العالمي. وللتحوّط ضدّ المَخاطِر الناتجة عنها، تتطلّع الدول لتأسيس مخزونات كبيرة من مُنتجات الطاقة، خاصّة النفط، لتجنّب صدَمات العرض. وتقود هذا الاتجاه كلٌ من الهند والصين، المُحَرّكين الرئيسيين لسوق النفط العالمي في العقد الحالي وحتى منتصف القرن الجاري. وتنتَهز بدورها شركات الطاقة الوطنية والعالمية وبيوت التجارة هذه الطفرة، عبر إنشاء مزيد من مَرافِق تخزين النفط والوقود ذات الكفاءة العالية، وذلك بالاستعانة بالتقنيّات الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي وإنترنت الأشياء وغيرهما. وهذا التوسّع سيَقود من دون شك لتأسيس سوق عالمي لتخزين النفط والتكرير أكبر حجماً وأكثر كفاءة في المستقبل القريب.
 

مُحَرّكات إضافيّة:
تجدّدت أهميّة قضية تخزين سلع الطاقة، خاصّة النفط، في ظلّ التوتّرات الجيوسياسية والاضطرابات الاقتصادية المُفاجِئة التي شهِدها العالم بالسنوات الأخيرة، بسبب الحروب والأزمة الصحيّة. وحملت تلك التطوّرات جملة من التبعات الخطِرة المؤثّرة على استقرار النظام الاقتصادي العالمي، بما في ذلك تعطّل سلاسل توريد، وتغيّر اتجاهات التجارة الدولية، واضطراب الملاحة البحرية الدولية؛ فضلاً عن الاستخدام المُوَسّع لأدوات الإكراه الاقتصادي بالنظام الدولي.
ومع تصاعد عدم اليقين الاقتصادي والسياسي العالمي؛ تزايد إلحاح بناء مخزونات أو احتياطيّات كبيرة من المواد الخام، خاصّة النفط، تحسّباً لحدوث أيّة صدَمات محتملة بالأسواق الدولية. ولا تقتصر أهميّة مُراكَمة هذه الاحتياطيّات على مساعدة استقرار الأسواق أوقات الطوارئ فحسب، بل تؤدّي أيضاً دوراً مهماً في تعزيز النفوذ الاقتصادي والجيوسياسي للدول بالنظام الدولي.
فيما قدّم انخفاض أسعار النفط، بعد خفوت تأثير مُجرَيات الحرب في أسواق الطاقة؛ حافزاً إضافياً لكبار مُستَهلِكي الطاقة، كالصين والهند والولايات المتحدة، لتكديس مزيد من المخزونات النفطيّة؛ إذ بلغ متوسّط أسعار النفط في الشهور العشرة الأولى من عام 2025 نحو 68.5 دولاراً للبرميل؛ أي بانخفاض 17% مُقارَنة عن نفس الفترة في عام 2024. 
وفي واقع الأمر، تسير العلاقة بين المخزونات النفطية والأسعار في اتجاه  مُتَبادَل، حيث يؤثّر كلٌ منهما على الآخر. على هذا النحو، تُعتَبر مُراقَبة المخزونات العالمية للنفط محلّ اهتمام من قِبَل المنظّمات والشركات الدولية، المعنيّة بقطاع الطاقة، بهدف التعرّف على توجّهات السوق (أي العَرض والطلَب) بشكل أعمق؛ وبناء توقّعات مستقبليّة معقولة حول أسعار الخام.  
اتجاهات رئيسيّة:
يتشكّل سوق تخزين النفط والوقود في العالم حالياً عبر مجموعة من الاتجاهات الرئيسية الحاكمة، فيما يلي أهمّها:
1- ارتفاع مستويات التخزين: كان عاما 2024 و2025 استثنائيين لكبار المُستَهلكين، مثل الصين، في تخزين النفط، فيُقَدّر أن بكين وجّهت نحو 900 ألف برميل يومياً من مُشتَريات الخام للمخزونات في الفترة بين يناير وأغسطس من العام الجاري، وفق إدارة معلومات الطاقة الأمريكية. وجاءت هذه الطفرة الواسعة بفضل التشريعات الصينية الجديدة التي شجّعت الشركات الخاصّة، فضلاً عن نظيرتها الحكومية، لتأمين احتياطيّات كبيرة من النفط الخام. 
وبسبب الأوضاع الجيوسياسية العالمية المضطربة، قرّرت كوريا الجنوبية أيضاً في عام 2024 إضافة 3 ملايين برميل إلى مخزونها النفطي وسط المخاوف من انقطاع الإمدادات. فيما تستعد الحكومة الهندية لبدء عمليّة المرحلة الثانية من توسيع الاحتياطي النفطي الاستراتيجي؛ والولايات المتحدة هي الأخرى بصدَد إعادة ملء الاحتياطي الاستراتيجي من النفط الخام، الذي بلَغ نحو 393.5 مليون برميل في عام 2024؛ أي ما يصل نصف مستواه التاريخي المُحَقّق في عام 2010. 
إلى جانب مُراكَمة المخزونات الاستراتيجيّة النفطيّة، ساعدت آليّات السوق على ارتفاع المخزونات التجارية من النفط بحوزة شركات الطاقة العالمية ومصافي التكرير. وانعكس كلّ ذلك في ارتفاع المخزونات النفطية العالمية لمستوى قياسي خلال الأشهر التسعة الأولى فقط من عام 2025، ذلك بما مقداره 313 مليون برميل، أو 1.15 مليون برميل يومياً، وفق الوكالة الدولية للطاقة. وعلى الأرجح أن تَلْقى مستويات تخزين النفط زخماً إضافياً في غضون الأشهر القليلة المقبلة، خاصّة في ظلّ ديناميكيّة السوق، التي تميل لتحقيق فائض كبير بالمعروض على حساب الطلب. 
2- نمو المخزونات العائمة: لم ترتفع فقط أحجام تخزين النفط على المستوى العالمي، وإنما لوحظ أيضاً تغيّر في أساليب التخزين نفسها. فقد لجأ أولئك المُنتِجون المُعَرّضون للعقوبات الاقتصادية للاعتماد بشكل أكبر على أسلوب التخزين العائم، حيث واجهوا صعوبات أكبر في تصدير النفط الخام بسبب القيود الغربية الشديدة في الفترة الأخيرة. 
فعلى مستوى آسيا وحدها، شهِدت مخزونات النفط العائمة ارتفاعاً إلى 70 مليون برميل بنهاية شهر أكتوبر الماضي؛ أي بزيادة 20 مليون برميل من منتصف الشهر ذاته، وفق بيانات شركة "أويل إكس". ويعود معظم هذه البراميل إلى مُنتِجين كإيران وفنزويلا وروسيا وغيرها. وطالما ظلّ سيناريو رفع العقوبات عن قطاع الطاقة بهذه الدول مُستَبعَداً أقلّه بالوقت الحاضر، فمن المتوقّع أن يترسّخ نمط تكديس المخزونات البحرية بالعالم، لاسيما ما لم يتمكّن أولئك المُنتِجون من إيجاد مُشتَرين آخرين لتصريف فائض الإنتاج قريباً. 
3- بناء مَرافق إضافيّة: يدفع نمط النمو الاقتصادي القائم على الصناعات الكثيفة للطاقة، ليس لزيادة الطلب على الوقود فقط، وإنما بناء سعات تخزين أعلى وأكثر كفاءة لمُنتَجات الطاقة. فبالسنوات الأخيرة، تزايدت الاستثمارات العالمية في قطاع تخزين النفط والوقود، بدعم من عامليْن أساسيين هما، توسّع برامج الاحتياطي الاستراتيجي النفطي الحكومية، وخطط الشركات الخاصّة لتحسين كفاءة سلاسل توريد مُنتَجات الطاقة. 
 يتوجّه مزيد من مُشتَري النفط الرئيسيين في العالم حالياً لإنشاء مَرافِق إضافية للتخزين، للتكيّف مع المتطلّبات الجديدة لبرامج المخزونات الاستراتيجيّة النفطية، المُعَزّزة باتفاقات مُوَقّعة مع مُصَدّري النفط. وعلى سبيل المثال، من المتوقّع أن تُضيف الصين 11 موقعاً جديداً لاحتياطيّات النفط الاستراتيجيّة على طول السواحل الشرقية والجنوبية، بسعة إجمالية قدرها 169 مليون برميل، في حين تتطلّع الحكومة الهندية لزيادة سعة تخزين النفط بمقدار 47.6 مليون برميل، ضمن المرحلة الثانية لتوسيع برنامج الاحتياطي الاستراتيجي للنفط.  
وتعمل شركات الطاقة وبيوت التجارة الدولية أيضاً على توسيع البنية التحتيّة لتخزين النفط؛ بغية تحسين سلاسل التوريد وتلبية طلب عملائها المُتَزايد على الطاقة، وكذلك تعزيز مكاسبها التجارية عبر استخدام أدوات المُراجَحة بأسواق تداول النفط. وتستثمر هذه الكيانات التجارية بشكل مُتزايد في بناء أو حتى الاستحواذ على مزيد من مَرافِق التخزين، خاصّة بمراكز تجارة الطاقة ذات الموقع الاستراتيجي المُمَيّز وعالية التنافسيّة، كالإمارات وسنغافورة وهولندا وغيرها. 
فلتحسين مركزها وتحسين سلاسل توريد الطاقة عبر القارّة الإفريقية، استحوَذت شركة "أكواريوس إنرجي"، وهو مشروع مشترك بين شركتي "جلينكور" و"تريستار"، في غضون العام الجاري، على حصّة 37% في موقع تخزين ومزج النفط الخام في خليج سالدانها بجنوب إفريقيا، البالغة سعته نحو 10 ملايين برميل. كما تهدف شركة "فيتول" لترسيخ تنافسيّتها في مجال تجارة النفط والوقود في آسيا، مع تدشين مُنشأة جديدة مؤخّراً لتخزين البيتومين في ماليزيا بسعة تتراوح بين 50 ألف طن و70 ألف طن.
ومع النموّ المُتسارع للطلب العالمي على النفط بالآجال الطويلة، حيث قد يصل الطلب العالمي على النفط إلى نحو 113.3 مليون برميل يومياً بحلول عام 2030؛ ستزداد الحاجة تباعاً لبناء مزيد من مَرافِق تخزين النفط داخل الأسواق الواعدة مثل الهند والصين، أو مراكز تجارة الطاقة الرئيسية حول العالم. 
4- تبنّي الحلول الرقميّة: تستكشف مَرافِق تخزين النفط والوقود تبنّي الأجيال الجديدة من التقنيّات الرقميّة، والتي تتمثّل أهميّتها الرئيسية في دعم كفاءة وسلامة حلول التخزين. ويَسير في هذا الاتجاه العديد من الشركات العالمية والوطنية، مثل "إكسون موبيل" الأمريكية و"شيفرون" و"بي بي" البريطانية، بالإضافة أيضاً إلى كلٍ من "أدنوك" الإماراتية و"أرامكو" السعودية. 
وتعتمد هذه الشركات على تقنيّات مختلفة، كإنترنت الأشياء والذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة، من أجل مُراقبة خزّانات النفط في الوقت الفعلي، وتحسين إدارة سعة التخزين، وكذلك التنبّؤ الدقيق بموعد صيانة البنى التحتيّة. ولا تقتصر أهميّة استخدام هذه الحلول على تحسين الكفاءة التشغيلية فحسب، بل تقلّل أيضاً من مَخاطِر تسرّبات المواد الخام؛ بما يتّسق مع المعايير العالمية الخاصّة بحماية البيئة والسلامة في عمليات تخزين النفط. 
وعليه، فمن المتوقّع أن تستقطع مُنشآت التخزين حصّة مُتَنامية من سوق التحوّل الرقمي بصناعة النفط والغاز الطبيعي، والذي سينمو إجمالاً إلى 124.9 مليار دولار في عام 2030، مُقارَنة بحجمه المُقَدّر بـ72.2 مليار دولار في عام 2025، طبقاً لشركة "موردور إنتليجنس".
5- مخزونات الوقود البديل: يتميّز سوق الطاقة العالمي حالياً بتفاعل معقّد بين ديناميكيّة تأمين الطاقة والتوجّه نحو تعزيز الاستدامة البيئيّة. في ضوء ذلك، يشهد القطاع استثمارات إضافية موجّهة لبناء مَرافِق التخزين الملائمة للوقود النظيف. ويتماشى هذا التوجّه مع استراتيجيّات الموانئ العالمية الرئيسية، كالفجيرة وروتردام وسنغافورة، الرامية لبناء مُنشآت ذات سعة عالية لمعالجة الوقود النظيف وتخزينه، بغرض تنويع أنشطتها وتعزيز ريادتها الدولية.
 والأمر نفسه ينطبق على شركات الطاقة الدولية، كشركة "شل" مثلاً التي تعمل على تعزيز قدراتها التخزينيّة لاستيعاب مجموعة أوسع من مُنتَجات الطاقة، بما في ذلك الوقود الحيوي والهيدروجين؛ ممّا يُسهم في تنويع محفظتها الاستثمارية. في المُجمَل، سيَدعم هذا التحوّل خطى الدول والشركات نحو تعزيز متانة سلاسل توريد الوقود النظيف، وتلبية الاحتياجات المستقبلية المُتَزايِدة عليه من قِبَل مختلف الأنشطة الاقتصادية.
ختاماً، يمكن القول إن تأسيس سلاسل توريد مستقرّة ومتينة لمُنتجات الطاقة في العالم في الأمَد البعيد؛ سيتطلّب بناء سعات إضافية ذات كفاءة عالية لمَرافِق تخزين النفط والوقود، لتلبية الطلَب العالمي المُتَزايد على الطاقة، والتكيّف مع المتغيّرات الجديدة للنظام الاقتصادي العالمي. ولعلّ هذا ما يدعو جميع الأطراف بصناعة النفط في الوقت ذاته لتعزيز التعاون والمُشارَكة نحو تطوير مَرافِق تخزين أقلّ تركّزاً جغرافياً وأكثر كفاءة واستدامة. 

2025-12-08 08:24:44 | 20 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية