كان القُنصل مولَعًا بتقصّي مخيال أهالي فلسطين الاجتماعي وقصصهم الشعبية عن عَوالِم البلاد ومَعالِمها. وحكاية السنط في ساحل جنوب فلسطين ليست إلّا تعبيرًا عن ذلك المخيال، الذي كان يُجدَل عبر نظام ترميز الكائنات ما بين البرّين...
تحرير:عرب 48
21/11/2025
كانت غزة في القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين مثار اهتمام المؤرّخين والدارسين أكثر من أيّ مدينة فلسطينية أخرى، وذلك نظَرًا للتحوّلات الكبرى التي شهِدتها على مَدار هذه الحقبة من تاريخها. وحتى تاريخ غزة كُتِبَ في القرن العشرين؛ فضلًا عن كُتُب مُذكّرات ويوميّات وسيَر ذاتيّة تناولت ذاكرة المدينة في آخر مئة عام.
لقد شهِدت غزة أعنف ثلاثة تحوّلات خلال المئة عام الأخيرة؛ الأولى في عام 1917 مع نهاية الحرب العالميّة الأولى، حيث جاءت معركة غزة بين قوّات الحلفاء والعثمانيين على كامل المدينة، إلى أن تمّ إخلاؤها من أهلها قبل عودتهم إليها بعد الحرب. أما الثانية، فكانت في نكبة عام 1948، يوم تعرّضت غزة لأكبر هجمة ديمغرافيّة من النازحين - اللاجئين بعد بتْر المدينة من أطرافها وريفها المُهَجّر، لتتحوّل إلى قطاع من المخيّمات التي ابتلَعت المدينة نفسها. والثالثة: مع حصارها مطلع القرن الحالي، وصولًا إلى حرب إبادتها في العامَيْن الماضيين.
محطّات فاصلة في تاريخ غزة جعلت منها مدينة لا تُشبِه ما كانت عليه، على الأقل ما كانت عليه في القرن التاسع عشر. وعن هذه الأخيرة يصِف لنا جيمس فِن، قُنصل المملكة المتحدة في القدس (1846–1863)، في كتابه "دروب غير مَطروقة في فلسطين". لم يأتِ فِن في كتاب تقاريره القنصليّة "أزمنة مُثيرة... (1853–1856)" على ذِكْر مدينة غزة إلّا نادرًا. غير أنه في رحلاته التي سبقت تقاريره القنصليّة عن فلسطين في أربعينيّات القرن التاسع عشر، خصّ مدينة غزة برحلة قام بها في ربيع عام 1849، مُنطلقًا من مدينة القدس جنوبًا عبر بيت لحم؛ وما إن تَجاوَز الخليل مُنحدِرًا إلى السهل الساحلي نحو ريف غزة، حتى استوقفَته أولى الحكايات الشعبية الساحلية عن شجر سنط السهل الساحلي.
أطلَق أهالي ساحل فلسطين على شجر السنط اسم "الحراز"، وهي نفسها المعروفة بـ"الطلح"، شجرة دائمة الخضرة طوال فصل الصيف، ما جعلها جزءًا من النظام الرّمزي في ساحل فلسطين، حيث لا توجد، بحسب فِن، أشجار مُماثِلة لها سوى في مصر أو وادي عربة. وممّا يَقُصّه الساحليّون: "أن السنط لم يكن ينبت في البلاد، إلى أن غزاها في سحيق الزمان ملك مصري يُدعى أبا زيد. لكن هذا الأخير اضطرّ وجيشه، لسببٍ مفاجئ، إلى تفكيك مُعسكرهم وحمل خِيامهم والعودة إلى مصر؛ غير أن أوتاد الخِيام التي تركوها في الأرض أنبَتت جذورًا خلال الشتاء التالي، فكانت شجرة السنط، لأن أوتاد الخيام صُنِعَت منها".
كان القُنصل مولَعًا بتقصّي مخيال أهالي فلسطين الاجتماعي وقصصهم الشعبية عن عَوالِم البلاد ومَعالِمها. وحكاية السنط في ساحل جنوب فلسطين ليست إلّا تعبيرًا عن ذلك المخيال، الذي كان يُجدَل عبر نظام ترميز الكائنات ما بين البرّين، مصر والشام، من خلال غزة وريفها.
في طريقه نحو غزة، يصِف جيمس فِن قُرى ريفها الشمالي، وقد استوقفَته إسدود، المدينة الفلسطينية الموغِلة في القِدَم على سيف البحر، وأهلها ببياض ثيابهم، وكرَم كرومهم، وزيتونهم ونخيلهم، وحقول القمح، مُستَحضِرًا أسطورة الإله السمكة "دَاجون"، الذي كانت إسدود واحدة من أهم مُدُن عبادته قديمًا. ثم إلى قرى حمامة والمجدل (مجدل عسقلان) والجورة عند شاطئ البحر، حيث بقايا من أسوار وجدران وقلاع شبه مَركومة من خرائب عسقلان، مُذَكّرًا باسمها "عروس سورية" كما ظلّ مُتَداولًا في حينه رغم خرابها.
يَذكر فِن مروره بقُرى نعليا وبربرة، وشهرة الأخيرة بقمح حقولها المميّز آنذاك، بينما بربرة في القرن العشرين ما قبل النكبة أصبحت مشهورة بالعنب البربراوي. وبعدها قرية بيت جرجا، ثم إلى بيت حانون، أقرب القُرى إلى غزة المدينة من شمالها، حيث دخل فِن القنصل المدينة عند الساعة الخامسة من يوم الأوّل من أيار/مايو 1849.
كان أكثر ما لفَت صاحب الرّحلة في غزة، كثافة شجر الزيتون المُحيط بالمدينة، ما يؤكّد على أن غزة كانت مدينة زيتونيّة قبل أن تأتي الحرب العالميّة الأولى (1914–1918) على آخر شجرة زيتون فيها دفعة واحدة وللأبد. كما أشار إلى الصبّار (الصّبر) المُحيط بكروم غزة؛ ولمّا سأل القُنصل عن كيف يَنمو الصّبر ويُحافِظ على خضرة ألواحه رغم شحّ مياه المطر، أجابه الغزيّون: "الصّبرة ترتوي من مياه الحياة".
مركز الحجر الصحّي كان أوّل ما زاره القُنصل البريطاني في المدينة، والذي كان يُديره الأطبّاء وخفر الحراسة الأتراك معًا. وقد أشار فِن إلى استجواب أربعة رجال من خان يونس جِيءَ بهم مُكَبّلين بالأصفاد على خلفيّة اتّهامهم بالاعتداء على جندي تركي في غزة. ثم زيارة قائمقام غزة محمد أفندي، ابن الشيخ حسين عبد الهادي من مدينة نابلس؛ وقد أشار فِن إلى تحلّق زعماء وشيوخ قرى غزة في ديوانه من أجل توسّطه لحلّ قضية رجال خان يونس الأربعة. ثم إشارته إلى زيارته قاضي المدينة، دون ذِكْر اسمه؛ وقد وصفَه فِن جالسًا يُقيم مَحكمته بين امرأتين من إحدى قرى غزة في أحد البساتين، في هواء غزة الطّلْق، واضعًا منديلاً قماشيًا لحماية رأسه من الشمس، قبل دخول القنصل عليه وإبعاد القاضي للنسوة ريثما ينتهي من استقبال ضيفه الأجنبي.
كما أشار فِن، خلال أيام إقامته في غزة، إلى أنها مدينة تكاد تخلو من الأمراض لطيب هوائها ومائها، باستثناء ما كان يُعرَف بمرَض "رمد العيون" الذي كان ينتشر على نطاق واسع في عيون الغزيين آنذاك. بينما خُبز غزة لم يكن بالجودة التي كانت عليها خُبز مدينتي القدس ونابلس، على رأي صاحب الرّحلة.
ومما لفَت فِن أثناء مروره بالمنطقة الشاطئيّة غرب المدينة، الموقع الأثري "تل العجول"، وهو الموقع الذي قامت عليه غزة القديمة. وقد ظلّ الغزّيون يعتقدون أن تل العجول ما يزال مسكونًا بشبح عِجلٍ لم يتمكّن أحد حتى ذلك الوقت من القبض عليه؛ ومن يفعل، سيَحظى بكنوز غزة القديمة الدفينة فيه، بحسب ما سمِع القُنصل من أهالي المدينة في مخيالهم الشعبي عن "تل العجول".
زار جيمس فِن كلًا من خان يونس و"الدير" أي دير البلح، ووصفَها بأنها قُرى في ريف غزة الجنوبي، وقد أشار إلى بيوتها المبنيّة من طين غزة المجفّف، يُقيم في معظمها الجُند الأتراك، وبوصفِها آخر مراكز كانت تخضع لقوّات السلطان العثماني جنوبًا، حيث كانت مصر خارج سلطته فعليًا. كما أشار إلى قُرى محيطة بمدينة غزة صارت لاحقًا أحياء فيها، مثل بني سهيلا.
أشار صاحب الرّحلة إلى مَظاهر اجتماعية مختلفة استوقفَته في مدينة غزة، منها مطبخ وموائد طعام قائمقام المدينة محمد عبد الهادي: دَسَات الأرز باللحم وطريقة تناوله "كانوا يتحلّقون مُتَراصّين حول سِدر الطعام النحاسي بشكلٍ لا يُتيح لهم سوى مَدّ أذرِعتهم اليمنى لتناول الطعام...". وأشار إلى مَصاطِب بيت عبد الهادي في غزة تعجّ بالعبيد – الزنوج الذين يعملون في خدمة البيك – الحاكِم وضيوفه. ومن مظاهر الاعتزاز الغزيّ آنذاك كانت الخيول، وقد أشار فِن إلى أشهر أنواعها بالأسماء.
لم يُفَوّت صاحب الرّحلة الإشارة إلى مسيحيي مدينة غزة وأشهر عائلاتهم المُقيمة فيها، منهم آل جهشان الذين نزَل القنصل في ضيافتهم، وكانت الأُسرة الأكبر والرئيسية في الطائفة المسيحية. وقد أشار فِن إلى أن المائدة التي دُعِيَ إليها في بيت إبراهيم جهشان فاقت مائدة الحاكِم محمد عبد الهادي، ممّا يُبَيّن يُسر حال مسيحيي المدينة حينها. وقد زار فِن، برفقة جهشان، الكنيسة الأرثوذكسية في غزة، وقد وصَف بناءها بالرثّ، "كما كان مظهَر مسيحيي غزة الذين شاهدتهم كافّة يتّسم بالغباء..."، يقول فِن الذي لم يُخفِ تحامله على مسيحيي غزة لعروبتهم وشرقيّتهم، ولأسباب أخرى، منها مذهبيّة، كونه بروتستانتيًا بالدرجة الأولى.
وممّا أذهَل القُنصل كما يقول: آثار اليهود السامريين في غزة، كانت لا تزال باقية في المدينة، "كانوا حتى جيليْن ماضيين طائفة موجودة في غزة...". وظلّ حمّام السمرة أحد أشهر حمّامات غزة طوال القرن العشرين.
أشار جيمس فِن سابقًا إلى وجود العبيد في ديوان وبيت قائمقام المدينة محمد عبد الهادي. لكن اللافت إشارته إلى تجارة العبيد في غزة في حينه. بَيْدَ أن فِن يؤكّد أن العبيد في غزة يُتاجَر بهم كمَمَرّ عبور فقط، أي ما يتم شراؤه في مصر يُنقَل إلى الشام؛ ما يعني أن غزة في القرن التاسع عشر كانت مَمَرًا تجاريًا بين بَرّي الشام ومصر. وقد نَبّهَ صاحب الرحلة إلى تداخل عالَمَي مصر والشام في غزة، في مختلف تفاصيل حياة الغزّيين، حتى في لهجتهم المَحكِيّة، التي وجَدها فِن نصف مصرية كما يقول.
في صباح السابع من أيار/مايو 1849، فَكّك جيمس فِن ومُرافِقيه خيامهم وأوتادها، مُغادِرين مدينة غزة بعد قضاء نحو أسبوع فيها. ولم تَخلُ إقامة القنصل البريطاني من مُلاحظات ذات مُسوح استعماريّة – مسيانيّة، في مُحاوَلته إعادة رسم خريطة غزة التوراتيّة، ومنها ما هو متّصل بأسطورة "شمشون في غزة"، على غرار رحّالة أوروبا إلى فلسطين القرن التاسع عشر. غير أن القنصل لم يَعثر على أثَر، ولا حتى حجَر، يتّصل بتلك الكذبة التاريخية؛ وقد وَدّع غزة على حقيقة نخيلها يُلَوّح في سمائها عاليًا، كما هم أهلها.
2025-12-03 11:10:13 | 34 قراءة