أفلام 7 أكتوبر "الوثائقيّة" في خدمة تبرير حرب الإبادة على غزّة
تسنيم القاضي: هناك فَرْق بين الدور الذي تلعبه عادة الأفلام الوثائقيّة في المساهمة ببناء سرديّة بهدف التوثيق التاريخي أو السياسي، وبين الدور الذي جرى توظيفها لأدائه عبر استخدامها سياسياً وعسكرياً لتبرير وشرعنة العنف الذي جرى لاحقاً.
سليمان أبو ارشيد
تحرير: عرب 48
22/11/2025
في مقالةٍ نُشِرَت ضمن سلسلة "أوراق سياسات" على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تتبّعت الباحثة تسنيم القاضي سلسلة الأفلام الوثائقيّة الإسرائيلية التي أُنتِجَت بعد السابع من أكتوبر، وتحليل الدور الذي تؤدّيه في تشكيل السرديّة الإسرائيلية حول الأحداث، وكيف جرى توظيفها، فنياً وإعلامياً وسياسياً، في المَحافِل الثقافية والدبلوماسية.
وخلصت الباحثة في تحليلها إلى اعتبار موجة الأفلام الوثائقيّة الإسرائيلية التي تلَت أحداث السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 امتداداً لذلك الاستخدام المؤسّسي للوثائقي كأداة تعبئة وتفسير، مُشيرَة إلى أنه مع تسارع الإنتاج خلال الأشهر الأولى بعد الحدَث، لم تُقَدّم هذه الأعمال بوصفها مجرّد محاولات فنيّة لفهم وتوثيق الصدمة، بل بوَصفِها منصّات لإعادة سرْد الواقع وتوجيه تلقّيه في الداخل والخارج، فيما ارتبط عرضها بخطاب سياسي وإعلامي مُنَظّم، رَكّز على ترسيخ فكرة "التهديد الوجودي" و"الحرب الدفاعيّة"، وتغليب مَشاهِد الألَم الإسرائيلي على أيّ سَرْدٍ مُواز.
وجاء هذا الخطاب، بحسب الباحثة، مُتَشابكاً مع جهود دبلوماسيّة وثقافيّة أوسع، إذ استُخدِمت العروض والحوارات المُصاحِبة للأفلام في المهرجانات والمنصّات الدولية لتثبيت صورة محدّدة للحرب، وتبرير العنف المُفرط الذي مارَسته إسرائيل في قطاع غزة، جرى خلالها تقديم الفلسطينيين في هذه السرديّات كقوّة همجيّة أو كتهديد مُطلق للحياة، لا كضحايا أو فاعلين سياسيين. وهي طريقة نجحت في تحويل الوثائقي إلى أداة تبرير ناعمة تتقاطع فيها السياسة مع الثقافة، ويُعادُ عبرها صوغ الحدود بين التوثيق والدعاية، وبين الذاكرة الجماعيّة والسياسة الحاضِرة.
وتكشف القراءة المتأنّية للخطاب المُرافِق لهذه الأفلام، التي تُجريها الباحثة، عن نَزْعة مُتصاعدة نحو نزع الطابع الإنساني عن الفلسطينيين وتثبيت صورة نمطيّة تُحَوّلهم إلى كائنات خارجة عن النظام الأخلاقي والسياسي، إذ يُقَدّم الفلسطيني في العديد من الأعمال التي تناولت أحداث السابع من أكتوبر وما تلاها، بوَصفِه تهديداً غريزياً للحياة، أو تجسيداً مُطلَقاً للعنف. وفي المقابل، يجري إبراز المُعاناة الإسرائيلية باعتبارها مُعاناة استثنائيّة ووجوديّة.
ولا يقتَصر هذا التباين السردي، برأي الباحثة، على محتوى الصّوَر، بل يمتدّ إلى أساليب المونتاج والتعليق الصوتي والمُقابَلات الانتقائيّة، التي تُعيد إنتاج تسلسل عاطفي يربط بين مشهد الصّدمة الأولى ومشروعيّة "الردّ العسكري" اللاحق، بحيث تصبح الأفلام، كما كُتِبَت، أداة لإعادة تأطير العنف المُمَنهَج والدمار الشامل في غزة بوَصفِه رداً مُبَرّراً أو حتمياً، ويجري استخدامها كلغة "للنجاة" و"الحقّ في الدفاع" لغرَض تسويغ الإبادة الجماعيّة كضرورة وجوديّة.
لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع، أجرى "عرب 48" هذا الحوار مع الباحثة تسنيم القاضي.
"عرب 48": إنتاج الأفلام الوثائقيّة الإسرائيلية حول أحداث السابع من أكتوبر بدأ بشكلٍ مُبكِر؛ طريقة عرضها وتوزيعها والجهات التي تقف من وراء إنتاجها وهندستها وتصميم روايتها تُثير العديد من التساؤلات التي حاولتِ الإجابة عليها في المقالة المذكورة؟
القاضي: لقد حاولتُ من خلال المقالة رصد الأعمال الوثائقيّة الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر والتعرّف على اتجاهاتها وموضوعاتها وتوقيتها، لأن التوقيت كان مهماً أيضاً في سياق تبرير حرب الإبادة على غزة. وقد تَتَبّعتُ هذه الأفلام التي أُنتِجَت خلال سنتين أو أكثر، من حيث موضوعاتها والجهات التي مَوّلتها وأخرَجتها، وأماكن عَرْضِها على المنصّات التلفزيونية والإلكترونية والمهرجانات الدولية، وتحليل الدور الذي تؤدّيه في بناء السرديّة الإسرائيلية حول الأحداث وكيفيّة توظيفها، فنياً وإعلامياً وسياسياً، في تبرير حرب الإبادة.
وقد حاولتُ تسليط الضوء على ما جرى من تكثيف لحدَث السابع من أكتوبر وأحداث معيّنة جرَت خلاله، من ضمنها روايات عن "الاغتصاب" و"الأطفال المقطوعة رؤوسهم" وكميّات من العنف، نُقِلَت حتى عبر وسائل إعلام أجنبيّة، مثل شبكة بي بي سي البريطانية، إلى جانب تثبيت مَشاهِد من هذا اليوم وتعميمها على مدى السنتين لتكون هي المُبَرّر المتجدّد لحرب الإبادة واستمرارها، وكأنّ ما كان من عنف ودم في اليوم الأوّل، السابع من أكتوبر، هو مُبَرّر لسنتين وأكثر من الإبادة وقتل الأطفال والمدنيين والقصف والتدمير والتجويع الذي حصل في غزة لاحقاً. هذا الحدَث جرى تثبيته واستخدامه في الأفلام الوثائقيّة حتى على الصعيد السياسي الإسرائيلي.
"عرب 48": لقد جرى استعمال الأفلام الوثائقيّة كوسيلة إعلامية لبناء سرديّة حول الأحداث تكون ناجعة في تبرير حرب الإبادة على غزة؟
القاضي: هناك فَرْق بين الدور الذي تلعبه عادة الأفلام الوثائقيّة في المساهمة ببناء سرديّة بهَدف التوثيق التاريخي أو السياسي، وبين الدور الذي جرى توظيفها لأدائه عبر استخدامها، سياسياً وعسكرياً، لتبرير وشرعنة العنف الذي جرى لاحقاً؛ وهو ما جرى بشكلٍ مُبكِر ومنهجي ورسمي ، إذ قامت وحدة الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي بعد أيام قليلة من الحدَث بإنتاج أوّل فيلم بعنوان "شهادة من مذبحة السابع من أكتوبر"؛ وهذا الفيلم توجَد مقاطع منه على المنصّات، لأنه لم يُعرَض على النطاق العام، وهو غير موجود على الإنترنت وليس في صالات العرض، حيث اقتَصر عَرضُه في صالات مُغلَقة لجمهور محدّد بهدف محدّد وضمن خطاب محدّد؛ وهو يُكَثّف أحداث السابع من أكتوبر ويُجَمّدها للحظة ليُعيد إنتاجها والتركيز عليها، ثم إعادة إحيائها في كلّ مرّة من جديد، وذلك من دون ذكر أيّ سياق، ودون ذكر اليوم التالي اللاحق للسابع من أكتوبر وما حصل في غزة.
وقد عُرِضَ الفيلم على دبلوماسيين حول العالَم، بينهم أعضاء في الكونغرس الأميركي. كما جرى عَرضُه من قِبَل مكتب رئيس الحكومة الإسرائيلية في أكثر من لقاء مع زعماء العالَم، بينهم الرئيس الأميركي السابق جو بايدن والحالي دونالد ترامب، بمُشارَكة مجموعة مُنتَقاة من الصحافيين.
ويستمرّ عَرْض الفيلم حتى اليوم، وله موقع رسمي على الإنترنت منشور فيه برنامج عَرْض الفيلم، فيما يُعرَض لحدّ الآن من قِبَل جهات رسمية إسرائيلية، سواء دبلوماسية أو سياسية أو عسكرية، ولجمهور محدّد وفي أماكن محدّدة ومُنتقاة، وهو يتألّف من مقاطع سُجّلَت بواسطة كاميرات المُراقبة وكاميرات الجسم والرأس التي كان يحملها عناصر القسّام خلال السابع من أكتوبر، وكاميرات الجسم والرأس التي كان يحملها أفراد الجيش والشرطة الإسرائيلية. كما يَترافَق مع خطاب افتتاحي وختامي يضع الفيلم في سياق مُعَيّن؛ بمعنى أنه لا يكتفي بعَرْض الأحداث كما وقعَت ويُعطي للمُشاهِد حقّ الاستنتاج، بل يأخذه إلى الموقف المُصَمّم سلَفاً.
"عرب 48": واضح من الجهة التي تقف من ورائه، وهي وحدة الناطق العسكري الإسرائيلي، بأنه فيلم مُوَجّه؛ ولكن ماذا مع الأفلام الأخرى التي تمّ إنتاجها من قِبَل شركات مستقلّة؟
القاضي: لاحقاً، وبشكل مُبكِر أيضاً، في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، تمّ إنتاج أوّل ثلاثة أفلام وثائقيّة، بينها "نوفا" و"سنرقص معاً"، ركّزت جميعها على مهرجان "نوفا" الذي جرى تناوله كحدَث رئيسي لتعريف وإعادة تعريف العنف من خلال تصوير المهرجان كمهرجان موسيقي بنمَط غربي، وشكل من أشكال المهرجانات الشائعة في أميركا وأوروبا، وهو يتعرّض لهجوم؛ وكأنّ المهرجان كان مُستَهدَفاً بشكلٍ مُسبَق، حيث أصبحت القصص الخارجة من هذا المهرجان هي القصص التي تحكي ما حدَث في السابع من أكتوبر. وقد جرى نشر بعض هذه الأفلام التي أنتَج أحدها تلفزيون "كان"، التابع لهيئة البث العام الإسرائيلي، على شبكة "يوتيوب"، فيما بيع بعضها لشبكات رقميّة مثل "أمازون برايم" و"فيديو آبل" وغيرها.
والأهم أن هذا الإنتاج لم يتم بشكل عشوائي، بل في إطار جهد مُنَظّم، الهدف منه ليس عرض الحقيقة وليس التوثيق التاريخي، لأنه كان يُصاغ بخطاب تبرير للموت القادم الذي سقط على غزة بعد السابع من أكتوبر؛ خطاب يُبَرّر لماذا يجب إبادة غزة، ولماذا يجب أن يكون كلّ واحد فيها مُستَهدَفاً. خطاب يُسَخّف الموت ويسحق العذاب، ويُبَرّر كمّ هذا العنف الذي ذهب ضحاياه آلاف وآلاف الأطفال والنساء، وتدمير المَرافِق الصحيّة والتعليميّة والدينيّة.
هَدَفُ هذا التكثيف من اللقطات المُرَكّزَة من العنف الذي وقع في السابع من أكتوبر هو إحداث ردّة فعل لدى المُشاهِد، بأن ما يحدث في غزة هو أمرٌ طبيعي وردٌ مُتَناسق. وفي السياق يتم استحضار المفاتيح الأساسيّة التي تستخدمها إسرائيل، مثل "الاحتفاظ بحقّ الرد"، "والحماية"، و"التهديد الوجودي"، وكأنّ الحدَث هو تهديد لكلّ الوجود اليهودي الإسرائيلي. كذلك يتم استحضار المحرقة وتداعياتها.
"عرب 48": هذا الإنتاج المُبكِر الذي تبعَته عشرات الأفلام الوثائقيّة والشرائط التلفزيونية المُتلاحقة خلال السنتين الماضيتين، يُشير الى وجود ماكِنة منظّمة جيّداً إلى جانب الماكِنة أو الآلة العسكرية الإسرائيلية الضاربة؟
القاضي: إذا ما نظَرنا إلى الإعلام بصورته الأوسع، وليس إلى الأفلام الوثائقيّة فقط، نرى كيف أنه جرى السماح للصحافة الأجنبية خلال الشهرين التاليين على السابع من أكتوبر، القيام بتغطية مستوطنات غلاف غزة والتغطية من الجانب الإسرائيلي، والسماح لها باختلاق قصص غير موجودة جرى تفنيدها لاحقاً، وتبنّي الرواية الإسرائيلية الرسمية التي كانت سائدة خلال الأشهر الأولى للحرب حول الأطفال مقطوعي الرؤوس وتعميم فكرة الحرق، والتي تبنّتها شبكات عالميّة مثل بي بي سي، ومنَعت في المقابل الصحافة الأجنبية من الدخول إلى غزة، كما منَعت التغطية الإعلامية في غزة عبر استهداف الصحافيين واستهداف وسائل إعلام ومؤسّسات إعلامية. كذلك رأينا التطابق التام بين خطاب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي وبين الخطاب الإعلامي الإسرائيلي.
"عرب 48": أشَرتِ إلى الاهتمام الإسرائيلي بأن تكون الأفلام بشراكة مع شبكات أجنبية، أو أن تُعرَض على القنوات والمنصّات الدولية أساساً؟
القاضي: الإنتاج كان بشكل أساسي إنتاجاً إسرائيلياً؛ وهذا يُعطينا ربما فكرة على أن الإنتاج الإسرائيلي هو إنتاج دولي وله حضوره العالَمي، وهو قادر على أن يُنتِج الرواية التي يريد تسويقها؛ وهو ما كان واضحاً قبل السابع من أكتوبر، حيث وصل هذا الإنتاج في السنوات الأخيرة إلى "نتفليكس" ومنصّات أخرى، ليُصبح إنتاجاً رائجاً يتم الالتفات إليه، وله قبول وحضور عالَمي.
وجرَت في هذا السياق محاولة تعريف إسرائيل من خلال الدراما؛ أي أنه عوضاً عن أن يرى العالَم إسرائيل عبر قنوات التلفزة والأخبار التي لا تعكس صورة جيّدة بالضرورة، فليَراها عبر الدراما والكوميديا وقصص الحبّ والطعام؛ هذا فضلاً عن إنتاجات الدراما العسكرية مثل مسلسل "فوضى" وغيره، وهو إنتاج يتم في إسرائيل عبر مُنتِجين وكتَبة سيناريو ومُخرِجين إسرائيليين، ثم يتم تصويره لاحقاً ليُعرَض في السوق العالَمي.
وهذا أمرٌ مهمٌ جداً، حيث تَصنع إسرائيل الرواية التي تُريد وتُخرجها كيفما تشاء، ثم تَعرضها من خلال المنصّات العالَميّة؛ وهو أمرٌ يزداد أهميّة عندما تكون رواية سياسية معيّنة بهذا القدَر تساهم في تبرير حرب وقتل أطفال، إذ إن مجرّد وجودها على "أمازون" و"آبل" وغيرها من المنصّات العالَميّة، فإنّ هذا يعني قبولًا ضمنياً لاستمرار حرب الإبادة وترويج للرواية الرسمية الإسرائيلية.
تسنيم القاضي: باحثة في مؤسّسة الدراسات الفلسطينية، حاصلة على درجة الماجستير في الدراسات الإسرائيلية من جامعة بيرزيت.
2025-11-28 13:23:36 | 61 قراءة