التصنيفات » مقالات سياسية

صراع البقاء: لماذا ترى "إسرائيل" التحوّلات الأميركية تهديداً وجودياً؟

صراع البقاء: لماذا ترى "إسرائيل" التحوّلات الأميركية تهديداً وجودياً؟

بقلم: حسين شكرون
موقع الخنادق 
20/11/2025

يشهَد الكيان الصهيوني في المرحلة الراهنة حالة غير مسبوقة من القلَق البنيويّ المُرتبِط مباشرة بتحوّلات السياسة الأمريكية الداخلية والخارجية، وبالتبدّلات الجارية في المزاج السياسي داخل المجتمع الأميركي. هذه التحوّلات، التي بدأت مَلامِحها بالظهور منذ سنوات، لم تَعُد تُقرَأ في "إسرائيل" كحوادث سياسية عابرة، بل كتحوّل استراتيجيّ عميق يُهَدّد ركناً مركزياً من أركان أمنها القومي: الضمانة الأميركية.
فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، رغم كونه حدَثاً محلّياً في مدينة واحدة، كان بمَثابة جرَس الإنذار الأوضح لهذا التحوّل. لم يَنظُر الإسرائيليون إلى ممداني كشخص، بل كنموذج سياسي جديد قادر على اختراق الجاليات اليهودية  من الداخل، وتعزيز خطاب تقدّمي ناقد للصهيونية، وتحويل هذا المزاج إلى سياسات محليّة ذات تأثير مالي وقانوني على إسرائيل. وهنا تكمُن خطورة اللحظة بالنسبة للنخب الإسرائيلية: فالمسألة لم تَعُد تتعلّق بأصوات فرديّة أو احتجاجات جامعيّة، بل بصعود تيّار كامل داخل المؤسّسات الأميركية، يُعَبّر عن نفسه عبر منصّات تشريعية وانتخابية مؤثّرة.
تَعتَبِر الكتابات الصهيونية الحديثة أنّ ما يجري في الولايات المتحدة هو تَشَكّل "مسارَين عالميين مُتَوازيين" يتقاطعان بشكل سلبيّ ضدّ إسرائيل. الأوّل هو الإدارة الأميركية البراغماتيّة التي لم تَعُد تمنح إسرائيل نفس مساحة المُناوَرة التي تمتّعت بها في العقود السابقة، حيث باتت واشنطن، وفق التعبير الإسرائيلي "تُضَيّق الخناق السياسي" على تل أبيب وتفرض عليها "قبّة حديديّة سياسية" تمنعها من التحرّك بحريّة في غزة والمنطقة. أما المسار الثاني، فهو "تسونامي مُعاداة السامية" -كما يُسَمّيه الخطاب الإسرائيلي- لكنه يأخذ شكلاً جديداً أكثر تعقيداً، يتمثّل بتحالف بين التيّار التقدّمي في الغرب وبين من يَصِفُهم الإسرائيليون بـ "الخيول الطرواديّة" من داخل المجتمعات اليهودية والأميركية، أي الأصوات اليهودية التقدميّة المُناهِضَة للصهيونية.
في هذا السياق، تَحَوّل ممداني إلى رمز لهذا التحالف. فقَدّم برنامجاً انتخابياً يصطدم بشكل مباشر مع المصالح الصهيونية: إلغاء استثمارات بلديّة نيويورك في الشركات الإسرائيلية؛ سَحْب الإعفاء الضريبي عن المنظّمات المُتَبَرّعة لمؤسّسات تعمل خلف الخط الأخضر، وتعديل تعريف مُعاداة السامية ليَستَثني مُعاداة الصهيونية. بل ذهب أبعد بوَعده باعتقال نتنياهو في حال دخوله نيويورك، في استجابة رمزية لمذكّرة التوقيف الدولية. وبالرّغم من إدراك الإسرائيليين أن هذا الوعد غير قابل للتنفيذ، إلّا أنهم رأوا فيه مؤشّراً على اتجاه سياسي يتوسّع داخل المُدُن الكبرى الأميركية.
هذا التحوّل تَجاوز البُعد المحلّي ليأخذ صدىً عالمياً، إذ تُشير التحليلات الإسرائيلية إلى أن "النموذج الممداني" قد يُصبح "دليل تشغيل" للسياسيين التقدّميين في لندن وباريس وتورونتو، ما يعني تراجعاً خطيراً في التضامن اليهودي العالمي التقليدي مع إسرائيل. ويَبرز هنا التهديد الوجودي الأخطر: ليس فقط تراجع الدعم، بل انقسام الجاليات اليهودية نفسها، حيث تَظهَر نسب تأييد لممداني تُراوح بين 20% و40% بين اليهود الشباب في نيويورك. ويصِف كتّاب صهاينة هذا التوجّه بأنه "يهودية مُصَحَّحة"، أي هويّة يهوديّة تفصل نفسها عن إسرائيل، وتُقَدّم ذلك كخيار أخلاقي.
إلى جانب ذلك، تُشير التحليلات إلى أن مكانة إسرائيل داخل الحزب الديمقراطي وصلت إلى "أدنى مستوياتها تاريخياً"، وأنّ الشباب الأميركي -الذين يُشَكّلون قاعدة الصعود الديمقراطي- هم الأكثر نقداً لإسرائيل. الأخطَر أن هذه التغيّرات لا تقتصر على الديمقراطيين؛ فحتى داخل الحزب الجمهوري، تتصاعد تيّارات يمينيّة شبابيّة تُظهِر مواقف مُعادِية لإسرائيل واليهود على السواء، ما يعني أن الاعتماد التاريخي على الحزبيْن لم يَعُد مضموناً كما كان.
وسط هذا المشهد، تتحدّث النخب الإسرائيلية عن دخول الكيان في "مرحلة حرب بقاء طويلة الأمَد"، تتطلّب إعادة صياغة استراتيجيّة كاملة، ووحدة داخلية، وقدرة على التمييز بين الأولويّات والهوامش. فالصورة التي لطالما رفضتها النخب-تشبيه إسرائيل بإسبرطة الحديثة المُحاصَرة- باتت اليوم واقعاً في نظَرها: دولة صغيرة، معزولة سياسياً، تُواجِه تحدّيات خارجية مُتَنامية وانقساماً داخلياً مُتَعَمّقاً، وتآكلاً في مَكانتها في الغرب الذي كان يُشَكّل عمودها الفقري الاستراتيجي.
باختصار، لا يكمُن الخطَر في ممداني ولا في مُظاهَرة مؤيّدة لفلسطين أو نقاش جامعي. بل في ذلك التحوّل التراكمي العميق داخل الولايات المتحدة، والذي يُنذِر بنهاية "العَقد الضمني" الذي حكَم العلاقة بين واشنطن وتل أبيب لعقود. إسرائيل، وفق تقييم كتّابها ومفكّريها اليوم، تقِف أمام عالَم يتغيّر بسرعة لا تستطيع مُلاحقَتها بالذهنيّة القديمة نفسها، وعليها أن تُعيد تعريف موقعها ودورها في منظومة دولية لم تَعُد تمنحها الامتيازات نفسها، ولا تبدو مستعدّة للدفاع عن سرديّتها كما فعلت في الماضي.

2025-11-28 13:18:30 | 54 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية