"تاتشر اليابان":
كيف يؤثّر صعود تاكايشي في سياسة طوكيو الخارجيّة؟
27 أكتوبر، 2025
د. أحمد قنديل
رئيس وحدة الدراسات الدولية وخبير الشؤون الآسيوية - مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجيّة
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
في تحوّل سياسي غير مسبوق في تاريخ اليابان الحديث، انتخب مجلس النوّاب الياباني، في 21 أكتوبر 2025، ساناي تاكايشي كأوّل امرأة تتولّى منصب رئيس وزراء اليابان؛ لتفتَح بذلك فصلاً جديداً في الحياة السياسية اليابانية، ليس فقط من زاوية النوع الاجتماعي، ولكن من حيث الاتجاه الفكري والسياسي المُحافِظ والمُتَشَدّد الذي تُمثّله هذه الشخصية المُثيرَة للجدَل.
للمرّة الأولى، تتولّى امرأة حُكم اليابان؛ لكنها ليست من دُعاة المساواة أو الإصلاح، بل هي ابنة التيّار اليميني القومي الذي تشرّب أفكار رئيس الوزراء الياباني الراحل، شينزو آبي. فهي تؤمِن بضرورة تعديل الدستور السلمي الذي فرضته الولايات المتحدة بعد الحرب العالميّة الثانية، وتدعو إلى تعزيز القدرات العسكرية لليابان، وتتبنّى نظرة مُحافِظة تجاه قضايا المرأة والمجتمع. وهو الأمر الذي جعَل عدداً من المُراقِبين يَصِفُها بأنها "تاتشر اليابان" أو "المرأة الحديديّة اليابانيّة"؛ لكنها أقرب إلى أن تكون صوتاً جديداً لروح آبي القديمة؛ صوتٌ يحمل صرامة العقيدة القومية، ويرى في "العظَمة اليابانية" فكرة يمكن استعادتها بقوّة الإرادة لا باعتذار التاريخ.
تحالفٌ هش:
منذ أن انكسَرت اليابان في الحرب العالميّة الثانية، وهي تعيش في ظلال تلك الهزيمة. فقد صاغ الأمريكيون دستورها السلمي، وحَيّدوا جيشها بالمادّة التاسعة من هذا الدستور، وربَطوا اقتصادها بعجَلة الغرب الصناعي. لكن تحت هذا السطح، كانت تنمو رغبة دفينة في "استعادة الكبرياء الوطني" الياباني.
ومع مرور العقود، وكلّما تراجعت الذاكرة الجماعيّة عن مشاهد التدمير الواسع الناجمة عن القنابل النووية في هيروشيما وناغازاكي؛ ازداد التيّار القومي الياباني قوّةً، حتى جاء شينزو آبي ليمنَحه ملامح عقائدية واضحة: اليابان القويّة، والمسلّحة، والمستقلّة عن عقدة الذنب.
اليوم، تعود تاكايشي لتَستَكمِل ما بدأه أستاذها السياسي؛ فهي لا ترى في الهزيمة التاريخية عبئاً، بل حافِزاً لاستعادة الدور. وتعتَبر أنّ اليابان دفعت ما يكفي من الثمن عن ماضيها، وأنّ الوقت حان لتتحرّر من قيودها الأخلاقيّة والعسكريّة.
ولم يكن صعود تاكايشي إلى قمّة السلطة في اليابان انتقالاً سلِساً للقيادة، بل نتيجة "زلزال سياسي" ضرَب البنية الداخلية للحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكِم. فقد تلقّى الحزب في انتخابات يوليو الماضي واحدة من أقسى هزائمه منذ تأسيسه عام 1955، نتيجة فضائح ماليّة وتراجع شعبيّته؛ ما دفَع رئيس الوزراء السابق، شيغيرو إيشيبا، إلى الاستقالة بعد نحو عام واحد فقط من تولّيه المنصب، تاركاً فراغاً سياسياً خطِراً.
لكن هذا الفراغ لم يكن ليملأه أحد لولا الصفقة التي أبرمَتها تاكايشي في اللحظة الأخيرة مع حزب الابتكار الياباني (إيشين نو كاي)، اليميني الشعبوي المُنبَثق من مدينة أوساكا (ثاني أكبر المدن اليابانية بعد طوكيو)، والذي أصبح شريكاً جديداً للحزب الليبرالي الديمقراطي الحاكِم بعد انهيار تحالفه التاريخي مع حزب "كوميتو" البوذي الوسَطي؛ حيث قرّر الأخير الانسحاب من هذا التحالف احتجاجاً على تورّط قيادات الحزب الحاكِم في قضايا فساد، وعلى انجرافه المُتَزايِد نحو اليمين القومي المتشدّد.
وبانهيار هذا التحالف، فقدَت طوكيو أحد أهم أعمدة التوازن السياسي التي ضمنت استقرار الحُكم لعقود، ودخلت مرحلة من التحالفات الهشّة والمُناوَرات البرلمانية الدقيقة.
وهذه اللحظة اليابانية، في عمقها السياسي، لا تختلف كثيراً عمّا شهدته أوروبا حين تهاوَت التحالفات الوسَطيّة وصعَدت القوى الشعبويّة لتملأ الفراغ بخطابات الهويّة والانغلاق القومي. ومن هنا، فإن فوز تاكايشي لا يُعَدّ حدَثاً داخلياً معزولاً، بل حلقة في سلسلة التحوّلات اليمينيّة التي تجتاح العالَم، حيث تُعيد الشعوب تعريف الديمقراطية والأمن والهويّة الوطنيّة. وما يحدث في طوكيو اليوم هو إعادة رسم للبوصلة السياسية اليابانية، وانتقال من الوسَط المُحافِظ إلى يمين قومي صريح، في بلَد يُمَثّل ثالث أكبر اقتصاد في العالَم، وقوّة تكنولوجية وصناعية هائلة، وموقعاً محورياً في مُعادَلات آسيا الاستراتيجيّة.
صراع الهويّات:
يعكس بروز تاكايشي على الساحة السياسية محاولة إعادة اكتشاف اليابانيين لهويّتهم؛ حيث يوجد جيل شاب يؤمِن بالمساواة والحريّة، وبضرورة مواجهة تحدّيات المناخ والهجرة، والانفتاح الثقافي على العالَم. وفي المقابل، يوجد جيل آخر أكبر سناً يشعر بالحنين إلى النظام والانضباط والهويّة الوطنية الصارمة.
وتُمَثّل تاكايشي هذا الجيل الأخير، وهي تُجيد مُخاطَبته بلغة "الواجب" و"الشرف" و"الهويّة اليابانيّة النقيّة"؛ لكنها تُواجِه تحدّياً حقيقياً في مجتمع بدأ يضيق بالخطابات الإقصائيّة. فاليابان اليوم ليست الدولة التي حكمَها الإمبراطور هيروهيتو، بل مجتمع مُتَنَوّع ومُتَأثّر بثقافة الإنترنت والعولَمة؛ ومن ثمّ فإنّ رفض تاكايشي للمساواة بين الجنسين، ولمبدأ الأسماء المُنفَصِلَة للأزواج، ولزواج المِثليّين؛ كلّها مواقف تعكس انفصالاً بين خطاب الدولة الجديد والواقع الاجتماعي المُتَغَيّر. وهذا الانقسام مُرَشّح لأن يتعمّق، وقد يتحوّل إلى صراع هويّة داخلي، كما حدَث في مجتمعات غربية شهِدت صعود اليمين الشعبوي.
انعكاسات خارجيّة:
من المُتَوَقّع أن يؤدّي تولّي تاكايشي رئاسة الوزراء في اليابان إلى عدّة تأثيرات في سياسة طوكيو الخارجية، وهو ما يظهَر في الملفّات التالية:
1- تناغم مع واشنطن: لا يمكن فهم الصعود السياسي لتاكايشي إلى أرفع منصب في اليابان، أيضاً دون النظَر إلى الولايات المتحدة. فمنذ نهاية الحرب العالميّة الثانية، كانت اليابان هي النموذج الذي صاغَته واشنطن لآسيا ما بعد الحرب: اقتصاد رأسمالي، ونظام ديمقراطي، وتحالف أمني راسخ. لكن صعود اليمين القومي الياباني لا يُزعِج واشنطن كثيراً، بل ربما يُسعِد بعض دوائرها المُحافِظة.
ففي لحظة تشهد فيها الولايات المتحدة عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تبدو تاكايشي الحليف المثالي له في شرق آسيا. فكلاهما يميني مُحافِظ، ويرى في الصين خصماً استراتيجياً يجب تطويقه؛ لذلك من المُتَوَقّع أن تشهد المرحلة المقبلة تناغماً عميقاً بين طوكيو وواشنطن، قوامه إعادة تسليح اليابان ضمن منظومة الردع ضدّ بكين وبيونغ يانغ، وتحميلها مزيداً من مسؤوليات الأمن الإقليمي.
لكن هذا التحالف بين واشنطن وطوكيو يحمل مُفارَقة كبرى. فاليابان التي ترفع راية الاستقلال القومي، تجد نفسها أقرب من أيّ وقت مضى إلى "الارتهان الاستراتيجي" لواشنطن. إنها المُعادَلة القديمة التي لم يستطع أيّ زعيم سياسي ياباني كسرها، وهي: كيف تكون وطنياً مُستَقِلاً وأنت في قلب منظومة الحماية الأمنيّة الأمريكيّة؟
2- استقطاب آسيوي: جاء صعود تاكايشي إلى منصب رئيسة الوزراء في سياق إقليمي مضطرب. فالصين تمضي في مشروعها لتأكيد زعامتها الاقتصادية والعسكرية على آسيا، وكوريا الشمالية تُواصِل تطوير برامجها الصاروخية النووية، فيما تنزلق تايوان إلى مركز الصراع الدولي. وفي هذا المشهد، تعني قيادة تاكايشي لليابان شيئاً واحداً، وهو عودة سباق التسلّح في شرق آسيا.
وأعلنت تاكايشي، منذ أن كانت وزيرة للأمن الاقتصادي، أنها تريد رفع ميزانية الدفاع إلى أكثر من 2% من الناتج القومي الإجمالي، وأنها ستُراجِع القيود المفروضة على استخدام القوّة المسلّحة في الخارج. وهذه السياسات تضع اليابان على مسار تصعيدي، وتُثير مخاوف الجيران الذين ما زالوا يتذكّرون أيام "اليابان الإمبراطوريّة".
ومن هنا، قد نجد الصين وكوريا الجنوبية وكوريا الشمالية في خندق واحد من الرفض والتحفّز، بينما تتّجه المنطقة إلى مرحلة استقطاب حاد بين مُعسكَرين: مُعسكَر تقوده الصين وروسيا، وآخر ترعاه واشنطن وطوكيو.
وبذلك؛ فإن ما يجري في اليابان ليس شأناً داخلياً بحتاً، بل حلقة جديدة في التوازنات الكبرى بين الشرق والغرب.
3- تأثيرات مُزدوَجة في الشرق الأوسط: في الظاهر، لا تبدو اليابان فاعلاً أساسياً في قضايا الشرق الأوسط؛ لكنها في الواقع تُعَدّ أحد أهم المُستَثمرين في مشروعات الطاقة والبنية التحتيّة في المنطقة، وشريكاً تجارياً كبيراً لدول مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى مصر. وهذا ما يجعل من المُفيد للدول العربية قراءة صعود تاكايشي بِعَيْن استراتيجيّة. فاليابان الجديدة، تحت قيادة تاكايشي، أكثر قوميّة؛ لكنها أيضاً أكثر حاجة إلى شركاء اقتصاديين مستقرّين.
وفي هذا السياق، قد يحمل صعود تاكايشي تأثيرات مُزدوَجة. فمن جهة، يمكن أن يدفع طوكيو إلى تعزيز علاقاتها الأمنية والاقتصادية مع دول الشرق الأوسط الصديقة للولايات المتحدة، في إطار مَحاور جديدة تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية مع التحالفات السياسية. كذلك، قد يسعى فريق تاكايشي الاقتصادي إلى تعزيز الاستثمارات اليابانية في مشروعات الطاقة المتجدّدة والمشروعات البحرية والأمن السيبراني مع العديد من الدول العربية، وفي مقدّمتها دولة الإمارات، والسعودية، ومصر، ضمن رؤية يابانية جديدة "للاستقلال الطاقوي" في المدى البعيد.
ومع ذلك، فإن طوكيو تحت قيادة تاكايشي، من ناحية أخرى، قد لا تكون بالمرونة التي اعتادَتها العواصم العربية في التعامل مع الحكومات اليابانية السابقة؛ لأن رئيسة الوزراء الجديدة، على الأرجح، سوف تضع المصالح القومية اليابانية فوق أيّ التزامات دولية، وسوف تتعامل مع السياسة الخارجية كامتداد للأمن القومي الصلب، لا كجسر للتعاون المُتوازِن. بعبارة أخرى؛ قد يؤدّي تشدّد تاكايشي القومي إلى قدر من الانغلاق الدبلوماسي والتردّد في الانخراط بمبادرات وساطة أو دعم تنموي ذو طابع إنساني أو أممي في منطقة الشرق الأوسط المُضطَربة.
اليابان إلى أين؟
إن السؤال الذي يطرحه المُراقِبون اليوم ليس ما إذا كانت تاكايشي ستنجح في منصبها الجديد باعتبارها أوّل سيّدة تُصبح رئيسة للوزراء، بل إلى أيّ مدى ستبقى في هذا المنصب. فحكومتها تقِف على تحالف هش مع حزب يميني صغير، وتعتَمد على برلمان مُنقسم، وعلى مجتمع لا يزال متردّداً في قبول قيادة نسائيّة مُحافظة. كما أن هذه الحكومة أيضاً مُحاطة بالألغام من كلّ اتجاه: اقتصاد متعثّر، وأسعار مُتصاعدة، وتحالفات سياسية رخوة، ومجتمع مُنقسم بين من يريد استعادة "اليابان القديمة" ومن يرى أن تلك العودة ليست سوى انتحار سياسي في عالَم جديد لا يرحم.
ومع ذلك، فإن رمزيّة الحدَث أكبر من عمر الحكومة نفسها. فاليابان دخلت مرحلة جديدة من تجربتها مع اليمين القومي في ثوب نسائي؛ وهي تجربة ستُعيد طرح الأسئلة الكبرى، مثل: هل يمكن لليابان أن تتسلّح من جديد دون أن تفقد روحها السلميّة؟ وهل تستطيع طوكيو أن تستعيد كبرياءها دون أن تستفزّ أشباح الماضي في آسيا؟ وهل ستجد في قوميّتها المتشدّدة دواءً لهواجسها، أم سيفاً يجرحها من جديد؟
على أيّة حال، يمكن القول إنّنا إذا تجاوزنا حدود الأرخبيل الياباني، سنرى أن ما يجري في طوكيو ليس معزولاً عمّا يحدث في العالَم. فالموجة اليمينيّة تمتد من واشنطن إلى روما، ومن بودابست إلى طوكيو، مَدفوعة بخطابات الخوف والهويّة والحنين إلى "الأمجاد الوطنية". ولا تُعَدّ تاكايشي استثناءً من هذه الموجة، بل وجهاً من وجوهها الجديدة؛ امرأة تتحدّث باسم أمّة قلِقة تبحث عن نفسها في عالَم مُضطَرب.
ومن جهة أخرى، فإن اليابان، بالرغم من موقعها الجغرافي كجزيرة، ليست جزيرة سياسية؛ فكلّ خطوة تخطوها طوكيو سوف تُحدِث صدىً في بكين وواشنطن، وربما في العواصم العربية أيضاً؛ حيث إن التحوّلات الكبرى لا تقع في زاوية من العالَم من دون أن تُعيد ترتيب المَوازين في الزوايا الأخرى.
في الختام، لا يُمَثّل صعود تاكايشي مجرّد تغيير في القيادة، بل إعلاناً عن زمن جديد آخذ في التشكّل؛ زمن يُعيدُ صياغة العلاقة بين المرأة والتاريخ، وبين اليابان وماضيها، وبين الشرق الآسيوي والعالَم بأسره. إنها لحظة تبدو يابانيّة المَلامِح؛ لكنها في جوهرها جزء من تحوّل كوني أوسع، يُعيدُ رسم خريطة الفكر والسياسة معاً، على إيقاع صعود اليمين المتشدّد في عواصم عدّة حول العالَم.
2025-11-12 09:16:52 | 83 قراءة