التصنيفات » مقالات سياسية

وقف الحرب والمرحلة المقبلة

وقف الحرب والمرحلة المقبلة

شكّلت الحرب عام 1973 مع العرب عاملاً أساسياً في صعود الليكود إلى الحُكم عام 1977. وقِس على ذلك تراجع قوّة الحزب الحاكِم وتشكيله لحكومة وحدة وطنية بعد الحرب مع منظّمة التحرير والحركة الوطنية اللبنانية عام 1982...
موقع عرب 48 
2/11/2025
جمال مصطفى

 تتطرّف إسرائيل بعد الحروب. ربّما هذا أوّل استنتاج يمكن الخروج به لو راجع أحدهم نتائج الانتخابات الإسرائيلية بعد كلّ حرب خاضتها إسرائيل. صحيح أن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تُرَجّح في المسار الانتخابي، وصحيح أن ما يُمَيّز التحّول في الخارطة السياسية في إسرائيل «بعد الحروب»، تحديدًا تلك التي لم تخرج إثرها إسرائيل بصورة نصر مُشابِهة لحرب الأيام الستّة، هو انتقال الحُكم في إسرائيل من معسكر إلى معسكر آخر؛ إلّا أن مركز ثِقل التحوّل هو ازدياد التطرّف ونموّ النزعة العسكرانيّة والاستيطانيّة في إسرائيل بعد جميع الحروب، وليس انتقال الحُكم بين المعسكرات السياسية.
ولعلّ الاستثناء الوحيد الذي يشذ عن هذه القاعدة هو عودة رابين إلى الحُكم بعد الانتفاضة الأولى. لكن مُوَقّع اتفاق السلام، الذي يُغَطّيه غبار العقود الأخيرة، والذي فقَد كلّ محرّكات تطبيقه، قد اغتيل تحديدًا لأنه قد شكّل هذا 'الاستثناء'؛ فضلًا عن اعتماده على الأصوات العربية في تشكيل الحكومة. وهذا درسٌ قد تعلّمه جميع 'خُلَفائه' منذ ذلك الوقت حتى يوم كتابة هذه الأسطر.
ويمكن القول إن هذا مسار تاريخي في إسرائيل، وأن تطرّف إسرائيل هو مسألة ديموغرافيّة، فضلًا عن كونها سوسيولوجيّة وثقافيّة. لكن بالإضافة لذلك، فإن المسارات التاريخيّة تحتاج آليّات تحديد وأحداث مفصليّة تُضفي على التاريخ ملامحه الدقيقة، وتُوَفّر لمراحله المُتَبايِنة أدواتها وغاياتها. وإن الحرب الراهنة هي من نوع الأحداث الذي يقف على هذا المستوى لناحية تحديد المرحلة التاريخية المقبلة.
لقد شكّلت الحرب عام 1973 مع العرب عامل أساسي في صعود الليكود إلى الحُكم عام 1977. وقِس على ذلك تراجع قوّة الحزب الحاكِم وتشكيله لحكومة وحدة وطنية بعد الحرب مع منظّمة التحرير والحركة الوطنية اللبنانية عام 1982. أمّا النموذج الأكثر وضوحاً لهذه المقولة فهو صعود شارون إلى الحكم إثر- من بين عوامل أخرى- اشتعال الانتفاضة الثانية عام 2000 وفشل إيهود باراك، الذي تَحالَف مع أحزاب 'يمينيّة' من أجل إقامة حكومته أصلًا، في القضاء على الانتفاضة.
إنّ المسألة الأساسيّة هنا هو تطرّف الحزب، ولاحقًا المعسكر، الذي يحكُم بعد الحرب قياسًا «بسمعته» السابقة، أو حتّى قياسًا بمن خلَفوه. والصورة الحاليّة قد بدأت تظهر ملامحها مع دخول إسرائيل «عام الانتخابات»: اقتراحات لقوانين مُنفَلِتة في هوس ملاحقة ومعاقبة أيّ شيء فلسطيني، من ضمّ الضفة الغربية حتى إلغاء حقّ التصويت لمن لا يخدم بالجيش.
إن ما يسمّى بـ «المعسكر الآخر»، يعجّ بقيادات تُعادي الفلسطينيين والعرب. وما يمكن أن يخلص إليه أيّ شخص قد استمع لمقابلات أو تصريحات غادي آيزنكوت، هو أن الفرضيّة المؤسِّسة لكامل قاموسه السياسي للتعامل مع الفلسطينيين هي خلفيّته العسكرية ولا شيء غير ذلك. فعلى الفلسطينيين أن يُقَدّموا تنازلات من طرف واحد، ومنهاج التعليم يجب أن يتغيّر في الضفة وقطاع غزة، ويجب ضمان أن يكون الجيش الإسرائيلي هو القوّة الوحيدة المسلّحة "غرب نهر الأردن" وفق تعبيره؛ فضلًا عن عدم تقديمه لأيّ مقتَرح لعقد السلام مع الفلسطينيين، بل تقوية الجيش الإسرائيلي من وجهة نظَره بفرض قانون تجنيد جديد. أمّا أفيغدور ليبرمان، فإن تصريحاته ووعوده لكثرتها لن نقتبسها.
مسألة الدولة الفلسطينية غير مقبولة على الكلّ الصهيوني؛ وأنّ لإسرائيل الحق في امتلاك اليد العليا على المنطقة؛ وأنّ على المنطقة أن تعترف بحقّهم التاريخي في البلاد؛ وأنّ الأسرى الفلسطينيين يجب إنزال شروط حياتهم إلى «الحدّ الأدنى للحدّ الأدنى»؛ وأنّ فرض واقع «حرب النقاط المُبَعثَرة» والعمليّات المتقطّعة، على لبنان وسورية وغزّة، هو حقٌ إسرائيلي؛ وأنّ على المجتمع الإسرائيلي أن يندمج بأوسع نطاق ممكن في الجيش، وأن يحملوا جميعهم السلاح؛ وأنّ على البرلمان ألّا يستَكين في سنّ القوانين ضدّ الفلسطينيين، وأن تكون الهدنة مع إسرائيل هي أملٌ للعرب، تمهيد لمبدأ السلام مقابل السلام. هذا جميعه يحظى بإجماع داخل إسرائيل. الإجماع العِبري ليس على الحرب وحسب، بل على كيفيّة إدارة العلاقة مع الإقليم.
لكن ثمّة ما يستَدعي التدقيق فيه في هذا الصدد، وهو نزعة العداء الشرِسة التي يحملها المرشّح الأبرز لرئاسة الحكومة، إذا استطاع المعسكر المُناوئ لنتنياهو ضمان أغلبيّة في مقاعد البرلمان الإسرائيلي، نفتالي بينيت «اليميني الليبرالي»، للأعداء في الداخل، أي للمجتمع الفلسطيني في إسرائيل. الرجل يؤمِن أكثر من غيره من بين المرشّحين لرئاسة الحكومة بتسليح المجتمع الإسرائيلي، وبالتحرير المطلق للقيود على آليات إطلاق النار، سواء من قِبل عناصر الشرطة أو رجال الأمن، أو من المستوطنين المسلّحين، الذين بلغ عددهم عشرات الآلاف. ويعتَبر دفع إقامة «الحرس القومي الإسرائيلي» خطوات حاسمة إلى الأمام أحد أبرز إنجازاته خلال فترة رئاسته القصيرة للحكومة الإسرائيلية. وهو -أي الحرس القومي-، بالمعنى الجاف للعبارة، قطاع مدنيّ مسلّح يشكّل احتياطاً للشرطة ويتلقّى تدريبًا قتاليًا، مُعَدٌ من أجل مواجهة حالات الاضطراب، والجريمة القومية، والمُظاهَرات التي يمكن أن يقوم بها المجتمع الفلسطيني في إسرائيل، على غرار أحداث مايو/ أيار من عام 2021. وهو بشخصه قد كان عضوًا مؤسِّسًا لقوى ميليشياوية يهودية مسلّحة نشطت في العقدين الأخيرين في النقب وفي المدن الفلسطينية التاريخية (يافا، عكّا، حيفا، اللد)، مثل مليشيا «بريئيل».
فضلًا عن ذلك، فالأرضيّة مُمَهّدة نحو تصعيد التعامل العنيف مع «العدوّ الداخلي». إنّ ما بدأ قبل «سيوف حديديّة» - صراع حول المؤسّسة القانونية - قد انتقل وتوسّع إلى صراع علنيّ الطابع وذو آليات تطبيق، حول كامل مؤسّسات الدولة: الجيش والأمن العام والشرطة، من خلال تعيينات أصحاب المناصب وتقييد صلاحيّات المؤسّسات داخل إسرائيل. ومن نافل القول إن التمييز والقتل يَجريان في إسرائيل قبل تغيير طابع مؤسّسات الدولة، لكن الأرضيّة التحتيّة للعمل المؤسّساتي الآن تخضع، وعلى نحوٍ غير مسبوق، إلى الاعتباط المُندَفِع بالطابع الذاتي للأشخاص المتفرّدين بالحُكم، دون عقلانيّة ترشيديّة، ما يُنذِر بتصعيد تجاه الفلسطينيين في إسرائيل بأدوات جديدة غير مألوفة، على مستوى القانون والسياسيات، فضلًا عن الإعدامات الميدانيّة والاعتقال الإداري.
ما أودّ قوله في هذا المقام أن حرب الإبادة والتهجير والقمع السياسي، لم تنتهِ بأيّ حال من الأحوال. في الواقع، لم تكن مقولة بتسيلئيل سموترتش «حسم الصراع» مُنحَصِرة به وبتيّاره السياسي. وإننا نُخطئ لو تعاملنا مع المقولة بوصفها ذات موعد نهاية أو لحظة صفريّة يُحسَم فيها الصراع «مرّة واحدة وإلى الأبد». إنها ثيمة المرحلة المقبلة. حسم الصراع هو عمليّة قائمة بذاتها؛ هي غاية ذاتها؛ هي موضوع ذاتها؛ وتعمل على تحقيق نفسها؛ ويتبنّاها الجميع في إسرائيل.
إن الحرب في الضفة الغربية مستمرّة وبوتيرة مُتصاعدة، بينما سِمات المرحلة المُقبلة للعلاقة مع الفلسطينيين داخل إسرائيل تبدو أكثر قتامة من أيّ وقتٍ مضى. وثمّة «الأهداف غير المُعلَنَة للحرب» التي وضعَتها إسرائيل بعد مُصادَقة كافّة تيّاراتها السياسية، والتي ستستمر بالعمل من أجل تحقيقها رغم توقيع اتفاق إنهاء الحرب في غزة.
لقد اشتُقّ الاتفاق، برأي كاتب هذه الأسطر، بالإضافة لإرادة وقف الحرب، من إدراك فلسطينيّ مفاده بأن هذه الحكومة في إسرائيل مستعدّة للتخلّي عن الرهائن الإسرائيليين لدى المقاومة. وأن للوقت علاقة عكسيّة مع عدد الأحياء منهم. وبالتالي فإن فقدانها لمزيد من الأسرى الأحياء قد يُغَيّر قواعد التفاوض على نحوٍ كارثي. بينما بالنسبة لإسرائيل، فإن الحرب لم تنتهِ. ومع عودة الرهائن يمكن خلق ذرائع للعودة إلى الحرب، وحماس هي المُذنِبَة في ذلك على أيّ حالٍ من الأحوال. ويمكن أيضًا تعميق البيئة الطاردة للفلسطينيين في قطاع غزة ليتحوّل النزوح، والجوع، وضعف القوى الحكومية، الطبيّة والتعليميّة وغيرها، والبطالة وارتفاع الأسعار، وتعطيل آليّات إعادة الإعمار، واستمرار التحكّم بالمَعابِر، إلى عالَم الحياة الغزيّة. إنه، بالنسبة لإسرائيل، إجراء يمكن خلاله إطلاق سراح الإسرائيليين من قطاع غزة.
ما يجري تطبيقه هو أمرٌ جُرّب منذ بداية الحرب: هدنة أولى وهدنة ثانية وهدنة ثالثة، سيتلوها رابعة وخامسة بالتأكيد، لتصبح الحرب مع غزّة بشكل خاصّ والإقليم بشكل عام، قاعدة وليس استثناء. وستُعايِن إسرائيل، من أجل بناء خطواتها مستقبلًا، مدى قدرة الفلسطينيين على الصمود أمام هذا الواقع.

 

2025-11-10 10:41:23 | 71 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية