التصنيفات » مقالات سياسية

العالَم بعد غزّة...من نظام السيطرة إلى نظام الوعي

العالَم بعد غزّة...من نظام السيطرة إلى نظام الوعي

رصيف 22
إبراهيم عجوة
31/10/2025

تُشكّل الحرب على غزّة، في بعدها العالمي، نقطة تحوّل دالّةً في طريقة إدارة الصراعات وإعادة إنتاج النظام الدولي. فالمشهد الذي بدأ في تشرين الأوّل/ أكتوبر من عام الحرب لم يعُد محليّاً، بل انفتح على شبكةٍ معقّدةٍ من التفاعلات الإقليمية والدولية التي كشفَت حدود النظام القائم، وأظهَرت في الوقت ذاته ملامح النظام المقبل. 
لقد كانت غزّة بموقعها الجغرافيّ المحدود، ساحةً تتقاطع عندها أدوات السيطرة، وأنماط الحوكمة، وأساليب إدارة المخاطر، الأمر الذي جعلها مختبراً مكثّفاً لتجربة التحوّل من النظام التقليديّ القائم على الردع إلى النظام الشبكيّ القائم على المراقبة والإدارة متعدّدة المستويات.
من منظورٍ موضوعي، يمكن القول إنّ الحرب كشفت عن أزمة توازن بنيويٍّ في النظام الدوليّ أكثر ممّا عبّرت عن صراع محليٍّ في حَدّه الجغرافيّ. فالتقنيّات الحديثة -من الذكاء الاصطناعيّ إلى المراقبة الفضائية والتحليل الفوريّ للبيانات- أدخلت الحروب في عصر "الإدارة الدقيقة للحدث"، حيث يُراد ضبط الكلفة السياسية والإنسانية ضمن حدود لا تهدّد بُنية الأسواق ولا تُحدِث صدمةً استراتيجيّة. 
وبذلك، لم تعُد الحرب، كما في القرن العشرين، لحظة انهيار للنظام، بل أداةً لتكييفه واستدامته. لقد أصبحت إدارة الصراع جزءاً من منطق الحوكمة الدولية نفسها، تُمارَس فيها القوّة من أجل الإبقاء على مستوى معيّن من الضغط الذي يسمح بإعادة توزيع الوظائف والأدوار، وليس من أجل الحسم.
إعادة تعريف "السيادة"
تُظهِر التجربة الغزّية أنّ الفاعلين لم يعودوا مُنحصِرين في الدول وحدها. فإلى جانب القوى الإقليمية الكبرى، برزت مؤسساتٌ دولية، ومنصّاتٌ تقنيّة، وشركاتٌ أمنيّة وإغاثيّة، تتقاسم مجالات التأثير داخل الفضاء نفسه. 
مع دخول الشركات العابرة للحدود إلى مشروعات إعادة البناء، بات الاقتصاد المحليّ جزءاً من اقتصاد شبكيٍّ عالميٍّ تُحدِّد إيقاعه الاعتبارات التكنولوجية واللوجستية، لا القرارات السياسية فحسب.
هذا التداخل بين السياسيّ والإنسانيّ والاقتصاديّ أعاد تعريف مفهوم السيادة في المناطق المتأزّمة، إذ أصبحت السيادة وظيفةً إجرائيّةً مؤقّتة تُوَزّع بين أطراف متعدّدة وفق الكفاءة في ضبط الميدان. وبهذا، بات يُنظَر إلى المناطق الخارجة من الصراع - ومنها غزّة- كـ"مساحات إدارة تشاركيّة" أكثر من كونها كيانات ذات سيادة مطلقة.
كذلك، كشفت الحرب عن حدود الأدوات التقليدية في المنظومات الدولية القائمة. فالأمم المتحدة والهيئات المتفرّعة عنها بدَت عاجزةً عن تجاوز أدوار التنسيق والمراقبة، في حين تولّت القوى الكبرى، ومعها التحالفات الإقليمية، رسم المسارات العمليّة على الأرض. 
هذا التحوّل يعكس انتقال النظام الدوليّ من مرحلة المؤسّسات الجامعة إلى مرحلة الشبكات الوظيفيّة، حيث يُقاس النفوذ بمدى القدرة على إدارة الأزمات ميدانيّاً وتقنيّاً وليس بالتمثيل القانونيّ. في هذا السياق، تظهَر غزّة كنقطة اختبارٍ لهذا النمط الجديد من الترتيبات، الذي قد يُعَمَّم لاحقاً في مناطق نزاعٍ أخرى تشترك معها في الخصائص الهيكليّة ذاتها.
من زاوية اقتصادية، أسهمت الحرب في تسريع التفكير في إعادة توجيه مسارات الإعمار والاستثمار بما يخدم التحوّل العالمي نحو الطاقة الجديدة والممرّات التجارية الذكيّة. فالمساعدات الدولية والإقليمية أصبحت تُربَط بشروط تتعلّق بالحوكمة، والشفافية، والاستقرار الأمنيّ، ولم تَعُد تُمنَح فقط لأسبابٍ إنسانية. 
الاقتصاد الشبَكي
ومع دخول الشركات العابرة للحدود إلى مشروعات إعادة البناء، بات الاقتصاد المحليّ جزءاً من اقتصاد شبكيٍّ عالميٍّ تُحدِّد إيقاعه الاعتبارات التكنولوجية واللوجستية، لا القرارات السياسية فحسب.
التحدي الأكبر الذي سيُواجِه العالَم في العقود المقبلة، هو إيجاد صيغةٍ تُوازن بين الكفاءة التقنيّة والمسؤولية الأخلاقية، بحيث لا يتحوّل الإنسان إلى متغيّر في معادلة أمنية أو اقتصادية لا مكان فيها لضميره.
وعلى المستوى الاجتماعي، أظهرت التجربة أنّ المجتمعات التي تخضع لفترات طويلة من الصراع تمتلك قدرةً عاليةً على إعادة التكيّف، لكنها تواجه في المقابل خطر التآكل البطيء في الثقة بين المواطن والمؤسّسة. فحين تتحوّل إدارة الحياة اليومية إلى منظومةٍ تقنيّة خارجية، تنشأ مسافةٌ بين الإنسان ومحيطه السياسيّ، ويُصبح الولاء للمنصّة بديلاً عن الولاء للدولة. من هنا، يبرز السؤال الأكثر إلحاحاً في مرحلة "ما بعد الأمن": كيف يمكن إعادة بناء الوعي الجمعيّ دون أن يُختزل في منظومة الرقابة؟
إنّ العالَم بعد غزّة يدخل طوراً جديداً من التنظيم، يمكن تسميته بـ"نظام الوعي المترابط"، حيث تتقاطع فيه ثلاث دوائر رئيسية:
الأولى: دائرة التقنيّة والسيطرة، التي تُمثّلها القوى الصناعية الكبرى وشركات التكنولوجيا ذات النفوذ العالمي.
الثانية: دائرة المجتمعات المتأزّمة، التي تُختبَر فيها أنماط الإدارة الجديدة وتُقاسُ عليها فعاليّة السياسات.
الثالثة: دائرة الفواعل الوسيطة، من مؤسّسات مالية وإغاثية وإعلامية، تشكّل الجسر بين القوّتين.
ماذا عن المسؤولية الأخلاقية؟
هذا التكوين لا ينتمي إلى منطق الحرب الباردة ولا إلى منطق العولمة الكلاسيكيّ، بل إلى ما يمكن وصفه بـ"الواقعية الشبكية"، حيث تُدار العلاقات الدولية عبر وظائف متداخلةٍ تُعَرّف بالأدوار المتغيّرة وليس بالتحالفات.
في ضوء ذلك، لم تَعُد غزّة حدَثاً منفصلاً، بقدر ما أصبحت مؤشّراً على تحوّلٍ عالميٍّ أعمق: انتقال البشرية من مرحلة الصراع على الموارد إلى مرحلة الصراع على المعنى، ومن إدارة الجغرافيا إلى إدارة المعلومة.
مع هذا التحوّل، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن للنظام الشبكيّ العالميّ أن يستوعب الإنسان بوصفه غايةً وليس أداةً، أو أنّ مرحلة ما بعد غزّة ستُكَرّس عصراً جديداً من السيطرة الهادئة التي تُدار بالعقل ولا تُدار بالسلاح؟
النظام الذي يتشكّل اليوم يهدف إلى إدارة درجةِ الفوضى بما يسمح بتوازن المصالح دون انهيار المنظومة، ولا يهدف إلى الهيمنة الصريحة.
أما التحدّي الأكبر الذي سيُواجِه العالَم في العقود المقبلة، فهو إيجاد صيغةٍ تُوازن بين الكفاءة التقنيّة والمسؤولية الأخلاقية، بحيث لا يتحوّل الإنسان إلى متغيّر في معادلة أمنية أو اقتصادية لا مكان فيها لضميره.
هكذا، يمكن القول إنّ "العالَم بعد غزّة" ليس انقلاباً جذريّاً بقدر ما هو تحوّلٌ في طبيعة الفعل الدوليّ: من الصراع على الأرض إلى الصراع على المعنى، ومن السيطرة العسكرية إلى الإدارة الرقميّة، ومن السيادة المغلقة إلى السيادة المشتركة.
ومع هذا التحوّل، يبقى السؤال مفتوحاً: هل يمكن للنظام الشبكيّ العالميّ أن يستوعب الإنسان بوصفه غايةً وليس أداةً، أو أنّ مرحلة ما بعد غزّة ستُكَرّس عصراً جديداً من السيطرة الهادئة التي تُدار بالعقل ولا تُدار بالسلاح؟

2025-11-07 14:19:17 | 130 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية