التصنيفات » مقالات سياسية

انتهاء أسطورة "إسرائيل" إلى الأبد

انتهاء أسطورة "إسرائيل" إلى الأبد

د. محمد السنوسي
أستاذ الدراسات الاستشرافية والشؤون الدولية بجامعة محمد الخامس بالمغرب.

الجزيرة نت : 25/10/2025
هل يُمكِن لحرب أن تُعيد تعريف الضحيّة؟
سؤال يبدو بسيطاً، لكنه في جوهره يُعيد صياغة العلاقة بين الأخلاق والواقع، بين الذاكرة والسياسة، بين ما نظنّه "خيراً"، وما نكتشف أنه مجرّد قناع يُبَرّر العنف.
لقد بُنِيَت صورة إسرائيل منذ تمّ زرعها في قلب العالَم العربي، على فكرة الضحيّة الخالدة؛ تلك التي نجَت من رماد المحرقة لتُقيمَ كياناً يحميها من تكرار التاريخ. ولكن التاريخ، كما قال هيغل، لا يُعاد إلّا على هيئة مأساة أوّلاً، ثمّ مهزلة.
والمأساة الفلسطينية الممتدّة منذ النكبة حتى اليوم، كشفَت أن الضحيّة التي لم تتصالح مع جراحها، تتحوّل بمرور الوقت إلى جلّاد يخاف أن يرى وجهَه في المرآة.
في هذه الحرب الأخيرة على غزة، لم يعد العالَم يرى الصراع بالعَيْن القديمة نفسها. الصورة التي كانت تختزل المسألة في "دفاع إسرائيل عن نفسها"، تبدّدت تحت سَيْلٍ من صوَر البيوت المُهَدّمة والأطفال المُقَطّعين، والغُبار الذي يبتلع الحكايات.
لأوّل مرّة، لم تَعُد القصّة تُروى من تل أبيب أو واشنطن، بل من الأزقّة المُدَمّرة، من تحت الرّكام، من فَم امرأة تبحث عن ابنها، أو أطفال يموتون من شدّة الجوع.
وهنا حدَث التحوّل العميق: لم تَعُد إسرائيل رمزاً للنجاة، بل نموذجاً للقوّة المُفرطة التي فقدت البوصلة الأخلاقية. تغيّر المعنى، وتحوّل الوعي.
تحوّل المعنى: من الهولوكوست إلى غزة
من المُفارَقات القاسية في التاريخ أن الذين رفعوا شعار "لن يتكرّر الهولوكوست"، يُمارِسون- باسم الخوف من تكراره – عنفاً يجعل المأساة قابلة للتجدّد، ولكن في صوَر أخرى أكثر دمويّة واتساعاً.
وهنا تتجلّى جدليّة الذاكرة والسلطة: فعندما تمتلك الضحيّة ذاكرتها دون مساءلة، تتحوّل تلك الذاكرة من مساحة للتذكّر والعِبْرَة إلى أداة للهيمَنة والتبرير.
حنّة أرندت كتبَت عن "تفاهة الشر"، حين رأت أن الجرائم الكبرى لا تحتاج إلى وحوش، بل إلى موظّفين يُطيعون الأوامر ويؤدّون واجباتهم بضمير مُرتاح.
في غزة، يتجسّد هذا الشرّ العادي بوضوح: طيّار يضغط زراً، مُحَلّل يُبَرّر على الشاشة، متحدّث رسمي يشرح ضرورة تدمير حيّ بأكمله لأن "الإرهاب يختبئ فيه".
لقد استُخدِمت الهولوكوست في المُخَيّلة الغربية كوثيقة شرعية لإعفاء إسرائيل من المساءلة الأخلاقية. غير أن صوَر الحرب الأخيرة كشفَت انكسار هذه الشرعية أمام حقيقة لا يمكن تجميلها: أطفال يُقتَلون أمام الكاميرات، وجثث تُستَخرَج من الأنقاض.
كما قال نعوم تشومسكي، إن أخطَر ما يفعله الإعلام الغربي هو "تعقيم" اللغة حين يتحدّث عن جرائم الحلفاء، إذ يُسَمّي القصف "عمليّة جراحيّة دقيقة"، والمجازر "أضراراً جانبيّة". لكن العالَم بدأ هذه المرّة يُسَمّي الأشياء بأسمائها.
إسرائيل- التي طالما احتكَرت سرديّة الاضطهاد- وجدَت نفسها فجأة في موقع من يُمارِس الاضطهاد، فيما الفلسطينيون- الذين حُرِموا من امتلاك روايتهم- صاروا هم من يَروون الحكاية بدَمِهم.
انهيار الرواية القديمة
منذ قيامها عام 1948، شَيّدت إسرائيل وجودها على ثلاث دعائم سرديّة تُشَكّل عماد خطابها أمام العالَم: الخوف، والبراءة، والضرورة.
الخوف من الإبادة بوصفه مبَرّراً دائماً للعنف، والبراءة الأخلاقيّة للضحيّة بوصفها حصانة ضدّ النقد، وضرورة القوّة بوَصفها شرطاً للبقاء. لكن هذه الدعائم الثلاث- التي بدَت راسخة لعقود – بدأت تتهاوى واحدة تلو الأخرى، تحت ضغط الوعي العالَمي الجديد.
فالعالَم الذي صدّق طويلاً أسطورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، صار يرى بأمّ عَيْنَيْه أن تلك الديمقراطية لم تكن سوى قشرة قانونية تغطّي نظاماً يقوم على التمييز والفصل والاستيطان؛ وأن القوّة التي ادّعت حماية الحياة باتت تحرس مشروعاً استعمارياً يعتاش على نَفْي الآخر.
وهنا يحدث ما يمكن وَصفُه، استعارةً من سلافوي جيجك، بـ "انكشاف البُنية الخياليّة"؛ فالخطاب الذي صنَع صورة إسرائيل بوَصفِها ضحيّة عقلانيّة وعادلة لم يَعُد قادراً على حماية نفسه من الحقيقة التي تفيض من بين شقوقه.
لقد فاضَت الصورة الواقعيّة- مَشاهِد الدمار، والقتل، والتهجير – على النظام الرمزي الذي كان يحتَكر تفسير الأحداث، فانهارَت وظيفة الرواية القديمة؛ لأن الواقع نفسه تمرّد على سَرْدِها.
شبكات التواصل الاجتماعي لعبت دوراً جوهرياً في هذا التحوّل. لم يَعُد الوعي الجماهيري مُرتَهَناً لما تبثّه القنَوات الغربية الكبرى؛ صار "المُواطِن الرّقمي" شاهِداً ومُحاكِماً في آن.
فَيْض الصورة كسَر احتكار الرواية. وحين تتكاثر الصوَر، تنكسر الهيمَنة؛ لأن الصورة التي كانت تمثّل الحقيقة الوحيدة أصبحت واحدة بين ملايين الشهادات.
وهكذا، انهارت رواية إسرائيل ليس بفعل بيان سياسي، بل بفعل مشهد إنساني لا يمكن إنكاره.
لقد صار الوعي العالَمي أكثر مقاومة للتنويم الأخلاقي الذي مارَسته المؤسّسات الإعلامية والسياسية الغربية لعقود.
العالَم يكتشف نفاقَه
ربما أكبر انكشاف أحدَثته هذه الحرب هو انكشاف الغرب نفسِه أمام مرآة غزة. كيف يمكن للعالَم الذي يرفع شعار الإنسانية في أوكرانيا أن يُبَرّر القتل في غزة؟ كيف تتحوّل "القِيَم الكونيّة" إلى أدوات انتقائية تُطَبّق حيث تشاء القوى الكبرى، وتُستَثنى منها الشعوب غير المرغوب فيها؟
سلافوي جيجك تحدّث عن "المشهديّة المُفرِطة للعنف"، حيث تتحوّل الكثرة الصادمة للصوَر إلى تخدير جماعي. غير أن غزة كسَرت هذا النمط؛ لأن العنف فيها لم يَعُد يُستَهلك بصمت؛ بل صار يُعَرّي البنية الأخلاقية التي تبرّر نفسها بالإنسانية. لقد اضطرّ الغرب إلى أن يرى وجهَه الحقيقي: عالَماً يُدين الاحتلال الروسي لأنه "ينتهك القانون الدولي"، ويُكافئ الاحتلال الإسرائيلي لأنه "يَحمي نفسه".
إنه ما يُسَمّيه تشومسكي "النفاق المُنَظّم": حين يُصبح الدفاع عن الحريّة مَشروطاً بنوع الجغرافيا ولون الضحيّة.
هذه الحرب لم تفضح إسرائيل وحدها؛ بل كشفَت خواء الخطاب الأخلاقي العالَمي الذي طالما استخدم حقوق الإنسان غطاءً لتوازنات القوّة.
ولعلّ المُفارَقة المؤلمة أن الضمير الذي أُنتِج لحماية الإنسان من التوحّش، صار هو نفسه أداة لإدامة التوحّش، ما دام مُرتكِب الجريمة حليفاً سياسياً، أو امتداداً ثقافياً للغرب.
إسرائيل كمرآة: من استثناء أخلاقي إلى نموذج استعماري
لأوّل مرّة منذ عقود، بدأت النخب الفكرية الغربية تتحدّث عن إسرائيل لا كحالة استثنائية، بل كامتداد لمنظومة استعمارية لم تَمُت بعد.
إسرائيل لم تَعُد "حصن الديمقراطية"، بل صارَت مرآة تعكس عيوب المشروع الغربي نفسه: النزعة إلى تبرير العنف حين يخدم المصالح، وادّعاء التفوّق الأخلاقي لتبرير السيطرة.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل إسرائيل هي "نحن" في صورَتنا العارية؟
في هذا السؤال تكمن خطورة التحوّل، لأنه يُزيح النقاش من السياسة إلى الأخلاق، من تبرير الأفعال إلى مساءلة الذات.
حين تُسقِط إسرائيل عن نفسها ثوب الضحيّة، فإنها تَسقُط في نظر كثيرين بوصفِها تُمَثّل جوهر ما أراد الغرب نسيانه: ماضيه الاستعماري.
ما يحدث اليوم ليس مجرّد نقد للسياسات الإسرائيلية، بل هو تشكيك في الأساس الأخلاقي الذي قامت عليه الفكرة الصهيونية ذاتها: فكرة الخلاص الجَمْعي عبر إقصاء الآخر.
لقد تحوّلت إسرائيل في المخيال العالَمي من رمز للنجاة إلى مرآة للهيمَنة، وأداة للإبادة الجماعيّة، ومن نموذج للحداثة الديمقراطية إلى مختبر للعنف المُنَظّم الذي يُمارَس باسم الأمن.
بهذا المعنى، فإسرائيل لم تعد قضية الشرق الأوسط، بل أصبحت قضية العالَم مع نفسه.
التحوّل الهادئ في الوعي العالَمي
من الجامعات الأميركية إلى ساحات أوروبا، ومن الفنّانين في أميركا اللاتينية إلى الحركات الطلابيّة في كندا، يتشكّل وعي جديد لا يُعَبّر بالضرورة عن موقف سياسي، بل عن رفض أخلاقي.
الجيل الجديد لا يرى في فلسطين قضية قومية بعيدة، بل مرآة لاختبار صِدق القِيَم التي تَرَبّى عليها: العدالة، الحريّة، الكرامة الإنسانية.
هذا التحوّل الهادئ لا تصنعه الحكومات، بل تصنعه الضمائر الفردية التي سَئمَت ازدواجيّة الخطاب، ومنطق "الحياة التي تستحق الحزن" و"الحياة التي لا تستحقّه"، كما تقول الفيلسوفة جوديث بتلر.
إنها ليست يقَظة سياسية فحسب، بل يقَظة أخلاقية.
فالمجتمعات التي شاهدت غزة تحترق أدرَكت أن الصمت لم يَعُد حياداً، بل مُشارَكة في الجريمة.
وبينما يصرّ السياسيون على تكرار اللغة القديمة، يتشكّل في العمق وعي جديد يرى فلسطين لا بوَصفِها أزمة، بل بوَصفِها معياراً للإنسانية.
خاتمة
هل يُمكِن لوعي عالَمي أن يولَد من تحت الركام؟ سؤال يبدو شاعرياً، لكنّه في جوهره اختبار لضمير البشرية: أنحن قادرون على أن نتعلّم من الألَم، أم أنّنا لا نراه إلاّ حين يكون ألمُنا؟
قد تكون غزة لم تنتصر بالمعنى العسكري المألوف، لكنها انتصرت في معركة أعمق: معركة المعنى. فقد كشفَت أن القوّة ليست امتيازاً أخلاقياً، وأن الضحيّة ليست هويّة أبديّة. أجبَرت العالَم على النظَر إلى نفسه لا كحَكَم في مأساة بعيدة، بل كجزء من بنية تُعيد إنتاج الظلم باسم القِيَم.
حين تنهار الرموز القديمة، لا يعود العالَم كما كان. إسرائيل، التي شيّدت صورتها على أسطورة الاضطهاد، تجِد نفسها اليوم في مأزق أخلاقي وجودي: كيف يمكن لضحيّتها التاريخية أن تُبَرّر قسوتها الراهنة؟ وكيف يمكن لقوّة تدّعي الدفاع عن نفسها أن تُدَمّر كلّ ما يجعل الدفاع مشروعاً؟
لقد سقط القناع: القوّة لا تمنح البراءة، والنجاة لا تبرّر الجريمة.
في صوَر غزة رأى العالَم انعكاسه: رأى أن الضحيّة يمكن أن تتحوّل جلّاداً حين لا تُواجِه ذاكرتها، وأن الحضارة قد تتواطأ مع الوحشيّة حين تُخَدّر نفسها بلغة القانون، وأن الحقيقة قد تتكلّم بصوت المَقهورين لا الأقوياء.
إنها ليست حرباً على غزة وحدها، بل هي حرب على صورة العالَم عن نفسه.
وربما لم تَنتَهِ الحرب بعد، لكنّ شيئاً ما انكسَر في الوعي الإنساني، ولن يُصلَح بسهولة.
فالعالَم لا يرى إسرائيل كما كانت؛ وربما- للمرّة الأولى منذ زمن طويل – بدأ يرى نفسه كما هو: كياناً مُمَزّقاً بين ادّعاء الأخلاق ومُمارَسة الهيمَنة، بين خطاب الإنسانية وواقع اللامبالاة.
وما بين الرّكام والمرآة، تولَد لحظة الحقيقة: ليس عن غزة فحسب، بل عن معنى أن نكون بشراً في زمن يتآكل فيه معنى الإنسان.

2025-10-31 12:26:25 | 23 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية