هل هناك أملٌ بالوحدة الفلسطينية هذه المرّة؟
الوحدة ليست خياراً ولا تَرَفًا، بل ضرورة وطنية وجوديّة تُمَكّن الشعب الفلسطيني من مواجهة الاحتلال ومخطّطاته والانتصار عليه، وتُعيدُ صياغة المشهد الفلسطيني على قاعدة الشراكة والتمثيل الحقيقي.
هاني المصري
موقع عرب 48
23/10/2025
من المُحتَمل أن تشهد القاهرة هذه الأيام حوارات جديدة بين الفصائل الفلسطينية في محاولة للتوصّل إلى اتفاق حول الوحدة الوطنية التي غابت منذ عام 2007، إذا تمّ تذليل العقَبات بخصوص الشروط التي يطرَحها الرئيس ولا تُوافِق عليها حماس ومعظم الفصائل، بعد فشل كلّ محاولات المُصالَحة السابقة في عواصم عربية وصديقة. ويبقى السؤال: هل هناك فُرصَة حقيقية للنجاح هذه المرّة؟
جذور الانقسام وأسبابه
لفَهْم التحدّيات الحاليّة، لا بُدّ من العودة إلى الأسباب التي أدّت إلى الانقسام واستمراره، رغم مَخاطِره الوجوديّة على الشعب الفلسطيني وحقوقه ومؤسّساته:
1.الخلافات البرنامجيّة: بين من يرى المقاومة المسلّحة طريقًا رئيسيًا للتحرير، ومن يُفَضّل نهج المفاوضات والتسوية السياسية. ويتجلّى الخلاف كذلك في الموقف من اتفاق أوسلو والالتزامات المُتَرَتّبة عليه.
.2صراع على السلطة: تحوّل الانقسام إلى صراع مؤسّسي على السلطة والقيادة والتمثيل والمُوازَنات، وليس فقط تعبيراً عن الخلافات السياسية والفكرية والبرامجيّة. كما عَمّقَ غياب التواصل الجغرافي بين الضفة وغزة الانقسام؛ وما سبَق جعَل إمكانات الوحدة أصعب بكثير.
.3غياب الإيمان بالشراكة: كلّ طرَف انتظَر وراهَن على سقوط الآخر، ما أدّى إلى إضعاف المؤسّسات وتحويلها إلى أدوات تابعة، وانتشار مظاهر الإقصاء والتفرّد والهيمَنة والفساد والمحسوبيّة.
.4دور الاحتلال: لعِب الاحتلال دورًا أساسيًا في وقوع وتعميق الانقسام عبر فرْض مُعادَلة "يا حماس يا السلام"، مدعومًا بالموقف الأميركي والأوروبي.
5.التدخّلات الخارجيّة: ازدادت الأزمة تعقيدًا بفعل صراعات المَحاوِر الإقليمية بين "الاعتدال" و"المُمانَعَة"، خاصّة في ظلّ علاقة حماس التاريخية مع جماعة الإخوان المسلمين وخلافاتها مع عدد من الدول العربية الهامّة.
6.الاستقطاب الحاد بين فتح وحماس: تمتلك فتح شرعية دولية وعربية، بينما تحظى حماس بشرعية شعبية، خصوصًا بعد "طوفان الأقصى" الذي أعاد الاعتبار لخيار المقاومة رغم الثمن الفادح المُتَرَتّب عليه.
.7جماعات مصالح الانقسام: استفادَت شرائح واسعة وأفراد من استمرار الانقسام من حيث استحواذهم على النفوذ والثروات والمَناصِب، في ظلّ غياب مؤسّسات الرّقابة والمُحاسَبة وحلّ المجلس التشريعي وتجويف مؤسّسات السلطة والمنظّمة والفصائل، ممّا جعلَها عقَبة حقيقيّة أمام أيّ مُصالَحة حقيقيّة.
الواقع بعد السابع من أكتوبر
زادَت أحداث السابع من أكتوبر من تعقيد المشهد. فقد تَبَنّت القيادة الرسمية أكثر وأكثر سياسة البقاء والنأي بالنفس والانتظار وسحب الذرائع، خشية من إسقاط السلطة وتعميم الحرب على الضفة الغربية. في المقابل، أبدَت حماس استعدادًا للتخلّي عن إدارة السلطة في غزة، والانفتاح على تشكيل حكومة وفاق وطني غير فصائلية، أو على تشكيل لجنة إسناد مُجتَمعي، مع قبول هدنة طويلة الأمَد.
كما شهِدت الساحة الفلسطينية تطوّرات إيجابيّة؛ أبرزها قبول حماس بمبادئ القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وتأكيدها في وثيقتها السياسية لعام 2017 على هدَف إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67، وعلى استقلال قرارها عن جماعة الإخوان المسلمين. هذه التطوّرات تفتح نافذة جديدة لتفاهمات وطنية، وإن كانت الخلافات حول "البرنامج الوطني والالتزامات ودور السلطة" لا تزال عميقة.
أولويّات المرحلة الراهنة
رغم أن الحرب توقّفت رسميًا، إلّا أن القتال والخروقات والضغوط الإسرائيلية لم تتوقّف. فالحصار والتحكّم بتدفّق المساعدات وبالمَعابِر وبالجوّ والبحر والاغتيالات والقصف والسيطرة الأمنيّة، واستخدام المفاوضات الجارية لفَرْض واقع سياسي جديد يُقَسّم الأرض والشعب إلى كيانات مُتَنافِرة، ويُحَوّل القضية الفلسطينية إلى قضية إنسانية أمنيّة اقتصادية، وليست قضية شعب يُكافِح من أجل تحرّره الوطني وحقّه بتقرير المصير. ومن هنا تأتي الأولويّة الفلسطينية في:
•تثبيت وقف إطلاق النار، ورفض أيّ وصاية أجنبية، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة، والتمسّك بوحدة الضفة وغزة، وضرورة عودة السلطة لتأكيد الهويّة الوطنيّة وفتح الطريق لإنجاز الاستقلال.
•منع فَرْض حقائق احتلاليّة واتفاقات إذعان في الضفة والقطاع تقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية مُوَحّدة. فالمُمكِن إذا استمرّت الأمور كما هي عليه الآن، أن يجري تفتيت وتقسيم الضفة والقطاع وخلق مَعازِل آهلة بالسكّان مُنفَصِلَة عن بعضها البعض، من دون سيادة، أو بمَظاهِر سياديّة محدودة، خصوصاً في معزل غزة.
•تبنّي برنامج وطني مُوَحّد يقوم على المدى المباشر؛ أوًلاً: على توفير مقوّمات الصمود والبقاء للشعب والقضية، وإحباط مخطّط تصفية القضية الفلسطينية من خلال خطّة حسم الصراع؛ وثانياً: الكفاح لإنجاز هدف الاستقلال عبر المقاومة الشعبية والمقاطعة والعقوبات والمساءلة والتدويل وتحقيق الحقوق؛ وثالثاً: على المدى الأبعد الكفاح لمُمارَسة الشعب الفلسطيني حقّه بتقرير مصيره، وحلّ مشكلة اللاجئين بالعودة والتعويض، وإقامة دولة واحدة ديمقراطية بهزيمة وتفكيك المشروع الاستعماري الاستيطاني.
خطوات عمليّة نحو الوحدة
إذا تَعَذّر الاتفاق الشامل فورًا "من فوق" على البرنامج أو الحكومة، إلّا إذا حدَثت مُفاجآت إيجابية، يمكن البدء بخطوات عمليّة تمهيديّة "من تحت لفوق ومن فوق لتحت"، وفق المُستَطاع، منها:
•تشكيل إدارة واحدة مُتَرافِقَة مع تعدّدية فكرية سياسية حزبية تُمَهّد لتوحيد القيادة وتُراعي المصالح الوطنية.
•إقرار ميثاق إعلامي وطني يمنع التحريض والتخوين والتكفير والإقصاء واحتكار الوطنية والدّين والحقيقة.
•تشكيل حكومة وفاق وطني أو لجنة إسناد وطنية مُرتَبِطة بالحكومة لإعادة السلطة إلى غزة.
•إنشاء وفد تفاوضي مُوَحّد بمرجعيّة وطنيّة لبحث "اليوم التالي".
•تنظيم عمل ميداني مشترك لمواجهة الاستيطان والضم واعتداءات المستوطنين على المواطنين ومُمتلكاتهم والمقدّسات.
•تشكيل لجان وتشكيلات شعبية ومجتمعية في مختلف القضايا المشتركة، وعلى كلّ المستويات، لمعالجة آثار الإبادة والتدمير والتهجير، والوقوف في وجه مخطّطات الضم والاستيطان والتهجير في الضفة وغزة، ومن أجل إعادة إعمار تستجيب للأولويّات والمصالح والاحتياجات الفلسطينية.
•التحضير لانتخابات محليّة ونقابيّة وفي الجامعات والاتحادات والجمعيات، تُمَهّد لانتخابات عامّة شاملة.
هذه الخطوات تمثّل قاعدة عمليّة تأسيسيّة يمكن أن تُبنى عليها الوحدة تدريجيًا، بعيدًا عن الخطابات والشعارات.
خاتمة
قد يكون تحقيق الوحدة الفلسطينية مُكلِفًا سياسيًا للبعض، لكنّه يبقى أقلّ كلفة من استمرار الانقسام الذي يُهدّد وجود المشروع الوطني نفسه. فالوحدة ليست خياراً ولا ترَفًا، بل ضرورة وطنية وجوديّة تُمَكّن الشعب الفلسطيني من مواجهة الاحتلال ومخطّطاته والانتصار عليه، وتُعيد صياغة المشهد الفلسطيني على قاعدة الشراكة والتمثيل الحقيقي.
إنّ نجاح القاهرة هذه المرّة مُمكِن، من جرّاء أن الأطراف الإقليمية والدولية باتت تخشى من الخطَر الذي تُمَثّله إسرائيل على الأمن والاستقرار في المنطقة، في ظلّ استمرار الحكومة الأكثر تطرّفاً؛ وتمّ إحياء القضية الفلسطينية وتبلور تحالف عالَمي يعمل على تجسيد الدولة الفلسطينية ونهوض غير مسبوق للشعوب على امتداد العالَم التي تُطالِب بالحريّة والعدالة للفلسطينيين ومُحاسَبة مُرتَكِبي الإبادة وكلّ أنواع الجرائم، وضعف محور الممانعة؛ وتَغَيّر، ولو نسبي، إيجابي، بسياسة محور الاعتدال، وأن السلطة في الضفة يجري تقويضها، والسلطة في غزة جرى تدميرها؛ ومطلوب أن تُغادِرَها حماس بموافقتها. وكلّ ما سبَق يُوَفّر ظروفاً أفضل للوحدة؛ هذا إذا توفّرت الإرادة السياسية والشجاعة لتقديم التنازلات المُتبادَلة، والانطلاق من المصلحة الوطنية العليا لا من الحسابات الفردية الفصائليّة الضيّقة التي تتمرّس وراء شروط تعجيزية للوحدة دفاعاً عن مصالحها. فبدون وحدة، لن تكون هناك دولة، ولن يكون هناك استقلال؛ وثمَن الوحدة أقلّ بكثير من ثمَن استمرار الانقسام.
إن عدم النجاح في إنجاز الوحدة أو خطوات وفاقيّة على طريقها، يفتح الباب لاعتماد مُقارَبات جديدة يتم فيها التعويل أكثر على الشعب ومُبادَراته، وعلى الحركة الوطنية بفصائلها القديمة، أو عبر تشكيلات جديدة، على أساس بلورة مشروع سياسي قابل للتحقيق، يجمَع ما بين الواقعية والطموح، والانسجام بين الأهداف وأشكال النضال المناسبة لها، مع الاحتفاظ بالحقّ باستخدام مختلف أشكال النضال، والحق والجدوى والقدرة على تحمّل التكاليف ومُواصَلَة المسيرة حتى النصر.
2025-10-31 12:24:10 | 24 قراءة