مَكاسِب استراتيجيّة:
لماذا يسعى ترامب لاستعادة قاعدة باغرام في أفغانستان؟
02 أكتوبر، 2025
د. أمل عبدالله الهدابي: كاتبة إماراتيّة
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
لا يتوقّف الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن طرْح القضايا والموضوعات الإشكاليّة التي تُثير الجدَل. فبالرّغم من انشغال إدارته بالعديد من الملفّات الساخنة إقليمياً ودولياً، والتي تمتَدّ من ملف الصراع الروسي - الأوكراني، إلى حروب الشرق الأوسط، وعلى رأسها حرب غزة، مروراً بالحروب التجاريّة التي أشعَلَها ترامب مع الحلفاء والأعداء على السواء؛ يُكَثّف الرئيس الأمريكي تحرّكاته من أجل استعادة السيطرة على قاعدة باغرام الجويّة في أفغانستان التي انسحَبت منها الولايات المتحدة في يوليو 2021.
وفي هذا السياق، حَذّر ترامب، يوم 20 سبتمبر 2025، ممّا أسماه "عواقب وخيمة" في حال لم تقم حركة طالبان بإعادة قاعدة باغرام إلى الولايات المتحدة؛ وقال في منشور له: "إذا لم تُعِد أفغانستان قاعدة باغرام الجويّة إلى الجهة التي أنشأتها؛ أي الولايات المتحدة؛ فإن أموراً سيّئة ستَحدث". وقبل ذلك بأيام، قال ترامب، في مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، بالمملكة المتّحدة، إن إدارته تعمل على استعادة السيطرة على قاعدة باغرام. فيما ذكَرت تقارير إعلاميّة أن هناك محادثات بالفعل منذ شهر مارس الماضي على الأقل حول إعادة القاعدة إلى السيطرة الأمريكية.
والسؤال المهم هنا هو: لماذا يُصِرّ ترامب وإدارته على استعادة السيطرة على قاعدة باغرام الجويّة في أفغانستان بعد أكثر من أربع سنوات من انسحاب الجيش الأمريكي منها؟ وهل سيتمكّن من تحقيق هدفه؟ وما مواقف أفغانستان والقوى الدولية الفاعلة في هذه المنطقة من التحرّك الأمريكي؟
دوافع واشنطن:
هناك عدد من الدوافع التي قد تقِف وراء رغبة ترامب في استعادة السيطرة على قاعدة باغرام الجويّة، ومنها الآتي:
1- الأهميّة الجيوستراتيجيّة لقاعدة باغرام: تُعَدّ قاعدة باغرام الجويّة أكبر قاعدة عسكرية في أفغانستان استخدَمتها الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "الناتو" أثناء غزو هذا البلد. وتقَع هذه القاعدة على بُعد نحو 50 كيلومتراً شمال العاصمة كابول، وتمّ بناؤها في خمسينيّات القرن الماضي بالتعاون بين الحكومة الأفغانية والاتحاد السوفييتي السابق؛ ثم أصبحت مركزاً رئيسياً للعمليات العسكرية خلال الوجود السوفييتي في أفغانستان. وبعد انسحاب السوفييت، تضرّرت القاعدة نتيجة الحرب الأهليّة؛ ثم أعادت الولايات المتحدة بناءها بعد غزو أفغانستان عام 2001، وتوسعة مساحتها لتصل إلى نحو 77 كيلومتراً مربّعاً؛ لتُصبح أكبر قاعدة أمريكية في البلاد ومركزاً للعمليات ضدّ حركة طالبان وتنظيم القاعدة.
وشكّلت قاعدة باغرام مركزاً رئيسياً لعمليّات القوّات الأمريكية وقوّات حلف "الناتو" على مدى 20 عاماً، حيث انطلقت منها العمليات الجويّة، واحتضَنت غُرَف عمليّات للتنسيق بين مختلف القوّات البريّة والجويّة، وكانت نقطة انطلاق للقاذفات والطائرات دون طيّار وطائرات النقل العسكري. كما احتوَت على مخازن للأسلحة والذخيرة والآليات العسكرية، وتوزّعت منها الإمدادات على باقي القواعد المُنتَشرة في القرى والجبال، ومثّلت جسراً جوّياً بين أفغانستان والقواعد الأمريكية في الخليج وآسيا الوسطى.
ولا تنبع الأهمية الجيوستراتيجيّة لقاعدة باغرام العسكرية فقط من رمزيّتها التاريخية ومساحتها والتجهيزات العسكرية فيها، ولكن أيضاً من اعتبارَين إضافيين مهمّين؛ أوّلهما موقعها الاستراتيجي بالقرب من الصين، التي تبعد حدودها أقل من 500 ميل فقط عن القاعدة؛ ما يمنح واشنطن نافذة استراتيجيّة لمُراقَبة تحرّكات بكين والضغط عليها، ولا سيّما في المناطق الغربية الحسّاسة التي تنتشر فيها التكنولوجيا النووية الصينية. وقد أشار ترامب صراحة إلى هذا الأمر، قائلاً في أحد تصريحاته إن "أحد الأسباب التي تجعلنا نريد القاعدة هو كما تعلمون، أنها تبعُد ساعة عن المكان الذي تصنع فيه الصين أسلحتها النووية".
كما يخشى الأمريكيون من أن تحلّ الصين محلّ الولايات المتحدة في السيطرة على هذه القاعدة العسكرية المهمّة؛ ما يُعَزّز نفوذها في آسيا الوسطى. وقد أشارت تقارير أمريكية عدّة بالفعل إلى تحرّكات صينيّة للسيطرة على قاعدة باغرام أو استغلالها. وادّعى بعضها أن الصين تدرس الاستحواذ على القاعدة كجزء من مُبادَرة الحزام والطريق، التي تُعَزّز النفوذ الاقتصادي الصيني في آسيا الوسطى وخارجها.
وعلى الرّغم من نفْي كبار المسؤولين في بكين صحّة ما ورَد في هذه التقارير؛ فإن الأمر المؤكّد هو أن البُعد الصيني يظلّ الدافع الأكثر حساسيّة وأهميّة بالنسبة للولايات المتحدة ولإدارة ترامب للتحرّك لاستعادة هذه القاعدة. ومن هنا يمكن القول إن رغبة ترامب لا تنطلِق من اعتبارات أفغانيّة بحتة، بل من منظور أوسع يرتبط بموازين القوى العالَميّة.
وضمن هذا السياق، ينطبق المنطق نفسه أيضاً على روسيا، حيث تقع قاعدة باغرام بالقرب من حدودها الجنوبية؛ ومن ثم يمكن أن تُمَثّل نقطة تحرّك لمُراقَبة التحرّكات الروسية في المناطق القريبة. وفي أوّل تعليق روسي على تصريحات ترامب بشأن القاعدة، وصَف مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى أفغانستان، زمير كابولوف، يوم 22 سبتمبر 2025، هذه التصريحات بأنها "ضجّة إعلاميّة"، مُشَبّهاً إيّاها بتصريحات ترامب السابقة حول ضمّ غرينلاند. وكذلك الأمر ذاته بالنسبة لإيران؛ حيث يُعطي الوجود الأمريكي في هذه القاعدة أفضليّة لواشنطن في حال قرّرت استهداف إيران عسكرياً.
وهذه الأهميّة الجيوستراتيجيّة كانت حاضِرة في أذهان وتقديرات القادة العسكريين الأمريكيين حتى قبل الانسحاب من قاعدة باغرام في عام 2021؛ حيث كتَب القائد السابق في القوّات الخاصّة الأمريكية، غرين بيرين، في مايو 2021، قائلاً: "من غير المُبَرّر التخلّي عن القاعدة الجويّة الوحيدة في العالَم الموجودة في بلد يقع على حدود الصين والحدود الجنوبية لروسيا، والتخلّي عن موطئ قدم استراتيجي رئيسي على طول الجناح الشرقي لإيران، وعلى طول حدود باكستان النووية وغير المستقرّة". وبالرّغم من هذه التحذيرات؛ مضى الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، قُدُماً في الانسحاب من القاعدة، علماً بأن عملية الانسحاب نفسها تمّت بشكل فوضوي، وبصورة كانت أقرب إلى الهروب.
2- دوافع ماليّة واقتصاديّة: انطلاقاً من عقليّته كرجل أعمال، يُمَثّل البُعد المالي دافعاً آخر مُحتَملاً لترامب للتحرّك لاستعادة قاعدة باغرام، أو على الأقل المعدّات العسكرية التي خلّفها الجيش الأمريكي خلال عمليه انسحابه الفوضوي منها. وتُشير التقديرات إلى أن الولايات المتحدة أنفقَت نحو 68 مليون دولار لتحديث القاعدة بعد السيطرة عليها عام 2001؛ لتُصبح قادرة على استيعاب ما يصل إلى 10 آلاف جندي. وفي عام 2006، خصّصت 96 مليون دولار لبناء مدرَج لهبوط طائرات الشحن الكبيرة والقاذفات؛ إضافة إلى إنشاء مواقف للطائرات محميّة بجدران ساترة وواقية من الانفجارات. كما ذكَر تقرير للبنتاغون أن الولايات المتحدة تركت وراءها معدّات عسكرية بقيمة 7 مليارات دولار.
وقد ألمَح ترامب إلى هذا المعنى خلال المؤتمر الصحفي مع رئيس الوزراء البريطاني، ستارمر، قائلاً: "كنّا سنُغادِر أفغانستان؛ لكنّنا كنّا سنُغادِرها بقوّة وكرامة. وكنّا سنحتَفظ بباغرام. لقد أعطَيناهم إيّاها دون مُقابِل. بالمناسبة، نحن نُحاول استعادتها". فترامب كرجل أعمال لا يُعطي شيئاً دون مُقابِل؛ كما أنه سبق وصرّح في تجمّع حاشد عشيّة تنصيبه في 20 يناير 2025، بأنّ المساعدة الماليّة المستقبليّة لأفغانستان ستكون مشروطة بإعادة المعدّات العسكرية الأمريكية من قِبل قادة طالبان.
الأمر الآخر الذي يتعلق بالدوافع الماليّة يرتبط برغبة ترامب في استغلال هذه المسألة كورَقة ضغط للحصول على العناصر الأرضيّة النادرة والمَعادن الموجودة في أفغانستان، حيث تزخر البلاد برواسب معدنيّة واسعة ومتنوّعة؛ وتاريخياً كانت أراضيها مصدراً رئيسياً للنحاس والذهب، بالإضافة إلى الأحجار الكريمة والأحجار شبه الكريمة، وخاصّة اللازورد. وتُقَدَّر بعض المصادر احتياطيّات أفغانستان المعدنيّة بنحو تريليون دولار؛ ويشمل ذلك 60 مليون طن من النحاس، و183 مليون طن من الألومنيوم، و2.2 مليار طن من خام الحديد. ويُستَخرَج الذهب من المُحافَظات الشمالية والشرقية؛ كما تحتوي المناطق الجبليّة الشمالية على رواسب قيّمة من الرخام والحجر الجيري تُستَخدَم في البناء.
3- مُكافَحة الإرهاب: ثمّة دوافع أخرى مُحتَملة لرغبة ترامب في استعادة السيطرة على قاعدة باغرام؛ ومن ذلك إمكانيّة استغلال واشنطن هذه القاعدة العسكرية في إنشاء مركز لمُكافَحة الإرهاب، لاستهداف تنظيم داعش الذي بدأ يُعاوِد نشاطه في هذه المنطقة. وتؤكّد بعض التقارير أن الوجود العسكري الأمريكي في باغرام "سيسمَح للولايات المتحدة بشنّ عمليات مُكافَحة الإرهاب في منطقة مُضطربة ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية - فرع خراسان، الإرهابي، الذي يخوض أيضاً حرباً مع طالبان".
العصا والجَزْرَة:
من غير المُتَوَقّع أن تكون الطُرُق مُمَهّدة أمام ترامب لاستعادة السيطرة على قاعدة باغرام من حركة طالبان الأفغانية التي قاتلت لعقدين من الزمن من أجل طرد الأمريكيين من أراضي أفغانستان. ولتحقيق هدَفها، تستخدم واشنطن أسلوب "العصا والجَزْرَة"؛ من خلال التهديد المباشر، كما جاء على لسان ترامب نفسه الذي قال: "إذا لم تُعِد أفغانستان قاعدة باغرام الجويّة.. فإنّ أموراً سيّئة ستحدث"؛ أو من خلال مُحاوَلة التوصّل إلى اتفاق مع حركة طالبان؛ حيث ألمَح ترامب، خلال وجوده في لندن، إلى أن الولايات المتحدة يمكن أن تستَحوذ على القاعدة بموافقة طالبان؛ لكن لم يتّضح الإطار الذي قد يكون عليه مثل هذا الاتفاق.
وقد ردّت طالبان بالرفض العلَني؛ حيث قال قائد الجيش الأفغاني، فصيح الدين فطرت: "أخيراً، قال البعض إنهم دخلوا مفاوضات مع أفغانستان لاستعادة قاعدة باغرام الجويّة"، مضيفاً أنّ "الاتفاق حتى على شبر واحد من أراضي أفغانستان مُستَحيل".
وتُدرك واشنطن أن أكثر ما تريده الحكومة الأفغانية بقيادة طالبان من الولايات المتحدة هو كسر العزلة الدولية والاعتراف بها؛ حيث لا يزال ممثّل الحكومة السابقة يشغل مقعد أفغانستان في الأمم المتحدة. كما ترغب كابول في الوصول إلى 7 مليارات دولار من الأصول المجمّدة في الولايات المتحدة لتعزيز اقتصاد البلاد المُتَعَثّر. وتُمَثّل المساعدات الأمريكية عنصر دعم قويّ لأفغانستان في مُواجَهة الظروف الاقتصادية التي تُعانيها؛ ومع كلّ ذلك، فليس مُرَجّحاً أن تتنازل حكومة طالبان عن قاعدة باغرام، وإن كان يمكن الوصول إلى تفاهمات محدّدة بشأنها بين الجانبيْن.
وهناك سيناريو بديل أمام الولايات المتحدة؛ وهو اللجوء إلى العمل العسكري وإعادة احتلال قاعدة باغرام. وهذا سيناريو بالِغ الصعوبة، ويتطلّب إرسال عشرات الآلاف من الجنود للاستيلاء على القاعدة والاحتفاظ بها، وجُهْداً مُكلِفاً لإصلاحها؛ فضلاً عن عملية لوجستيّة مُعَقّدة لإعادة إمداد القاعدة التي ستكون جَيْباً أمريكياً معزولاً في بلَد غير ساحلي. كما سيكون من الصعب تأمين هذه القاعدة أمام مجموعة تهديدات، بما في ذلك تنظيم داعش ومُقاتِلي تنظيم القاعدة داخل أفغانستان.
بناءً على ذلك، يمكن تصوّر أن الضغوط الأمريكية بقيادة ترامب ربما لن تخرج عن كونها مُحاوَلة للحصول على بعض المَكاسب الاقتصاديّة والأمنيّة من حكومة طالبان، بما في ذلك الوصول إلى المَعادِن النادرة، أو تفاهمات أمنيّة تمنع أفغانستان من إعطاء أيّة حقوق أو تسهيلات لقوى مُنافِسَة، مثل الصين، للوصول لهذه القاعدة أو استخدامها.
2025-10-16 11:01:29 | 14 قراءة