الخروج من الظل:
لماذا تَدعَم دول جُزُر المحيط الهادئ إسرائيل؟
07 أكتوبر، 2025
حسين معلوم: كاتب وباحث مصري
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة
في خريطة العلاقات الدولية، قد يُنظَر إلى الدول الجُزُرِيّة في المحيط الهادئ باعتبارها أصواتاً لا يتجاوز تأثيرها حدودها الجغرافية الضيّقة. بَيْدَ أن التجربة العمليّة تكشف عن مُفارَقة بالغة الدلالة؛ فبعض هذه الدول، بالرّغم من مساحتها الصغيرة ومَواردها الاقتصادية المحدودة، تكتسب أحياناً أهميّة ومَكانة دبلوماسيّة تفوق حجمها، ولا سيّما في المؤسّسات الدولية مثل الأمم المتحدة.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما يتعلّق ببعض دول جُزُر المحيط الهادئ مثل (ناورو، وميكرونيسيا، وبالاو، وبابوا غينيا الجديدة.. وغيرها)، التي تبنّت عبر السنوات الأخيرة مواقف داعمة لإسرائيل بصورة لافتة، سواء من خلال نمَط تصويتها في الأمم المتحدة، أم من خلال اتخاذها خطوات دبلوماسيّة مباشرة، مثل افتتاح سفارات لها في القدس أو دعم السياسات الإسرائيلية. وهذا النمَط من الدعم يُثير أسئلة جوهريّة عن أسباب انحياز دول جُزُر المحيط الهادئ البعيدة جغرافياً عن الشرق الأوسط إلى إسرائيل، وحدود تأثير هذه الدول، وتداعيات دعمها لتل أبيب.
مؤشّرات الدعم:
أظهَرت مجموعة من دول جُزُر المحيط الهادئ، منذ عقود، ميولاً واضحة لصالح إسرائيل في المَحافِل الدولية وعلى مستوى العلاقات الثنائيّة. ولعلّ أبرز المؤشّرات التي تكرّرت على مدار السنوات الماضية تتمثّل في الآتي:
1– تعزيز العلاقات الدبلوماسيّة: بادَرت دول، مثل ناورو وبالاو وميكرونيسيا، إلى إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل منذ تسعينيّات القرن الماضي؛ بل إن بعضها لم يتردّد في الإعلان عن نيّات افتتاح سفارات لها في القدس، بعد أن اعترفت الولايات المتحدة بها عاصمة لإسرائيل عام 2017. وعلى الرّغم من أن القدرات المالية والبشرية لهذه الدول لا تسمح لها بانتشار دبلوماسي واسع حول العالَم، فإنّ مجرّد اتخاذ مثل هذا القرار يكتسب رمزيّة كبيرة بالنسبة لإسرائيل.
وفي هذا السياق، اعترَفت ناورو رسمياً بالقدس عاصمة لإسرائيل في أغسطس 2019. فيما كانت بابوا غينيا أوّل دولة في المحيط الهادئ تفتَتح سفارة لها في القدس في سبتمبر 2023. كما أعلنَت فيجي، في 17 سبتمبر 2025، افتتاح سفارة لها في القدس أثناء زيارة رئيس وزرائها، سيتيفيني رابوكا، إلى إسرائيل، لتُصبح فيجي سابع دولة في العالَم تفتَتح سفارة لها في القدس بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وغواتيمالا، وهندوراس، وكوسوفو، وبابوا غينيا الجديدة، وباراغواي.
2– التعاون الثنائي وتقديم المساعدات: تؤدّي العوامل الاقتصادية دوراً محورياً في علاقات دول جُزُر المحيط الهادئ مع إسرائيل؛ حيث إن الأخيرة تُقَدّم، من خلال برنامجها للمساعدات "ماشاف" MASHAV، مساعدات تنمويّة وتقنيّة لهذه الدول الجُزُرِيّة التي تُعاني من تحدّيات اقتصاديّة وبيئيّة كبيرة. وتشمل هذه المساعدات مجالات حيويّة مثل الصحّة، والزراعة، وإدارة المَوارد المائيّة (الريّ وتحلية المياه)، ومشاريع الطاقة المُتَجَدّدة؛ وهي قطاعات حيويّة لهذه الدول المُعرّضة لمَخاطِر تغيّر المناخ.
وبالنسبة لدول تعتمد بشكل كبير على المساعدات الخارجية، فإن الدعم الإسرائيلي يُمَثّل أهميّة لها، حتى لو كان محدوداً مُقارَنةً بالذي تحصل عليه من دول أخرى مثل الولايات المتحدة والصين وأستراليا؛ حيث إنه يُساعدها على مواجهة قضايا مثل الأمن الغذائي، وتغيّر المناخ. وهذا الدعم التنموي يكتسب قيمة رمزيّة كبيرة، ويخلق علاقة "تبادل المنفعة"؛ حيث تحصل إسرائيل في مُقابِله على دعم سياسي.
3– الدعم في الأمم المتحدة: ضمْن أكثر المؤشّرات على دعم بعض دول جُزُر المحيط الهادئ لتل أبيب، يأتي نمَط تصويتها على القرارات المتعلّقة بإسرائيل في الأمم المتحدة. فبعض الدول، مثل ميكرونيسيا وناورو وبالاو وجُزُر مارشال، تُصَوّت غالباً ضدّ القرارات التي تَنتَقد إسرائيل.
فعلى سبيل المثال، غالباً ما تُصَوّت بعض هذه الدول ضدّ قرارات مثل تسوية قضية فلسطين، وانتهاكات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المُحتلّة. وهذا الأسلوب من التصويت قد يمنح إسرائيل بعض الغطاء الدبلوماسي في المحافل الدولية، حتى لو كان محدوداً، مُقَدّمَةً نفسها كدولة لديها دعم من مجموعة متنوّعة من الدول، خصوصاً أن دول جُزُر المحيط الهادئ تمتلك حقّ التصويت في الجمعية العامّة للأمم المتحدة؛ ما يعني مُعادَلة صوت أيٍ منها لصوت أيٍ من الدول الأخرى في العالَم.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك، تصويت أعضاء الجمعية العامّة للأمم المتحدة، في سبتمبر 2024، بأغلبيّة ساحقة، للمُطالَبة بإنهاء إسرائيل احتلالها للأراضي الفلسطينية؛ حيث صوّتت ضدّ هذا القرار 14 دولة، كان من بينها فيجي وميكرونيسيا وناورو وبالاو وبابوا غينيا الجديدة وتونغا وتوفالو.
أيضاً، اعتمَدت الجمعية العامّة للأمم المتحدة، يوم 12 سبتمبر 2025، "إعلان نيويورك" المؤيّد لحلّ الدولتين وإقامة دولة فلسطينية مستقلّة، بأغلبيّة 142 صوتاً مُقابِل اعتراض 10 أعضاء وامتناع 12 دولة عن التصويت. وكان من بين الدول العشر التي عارضت القرار كلٌ من ميكرونيسيا وناورو وبالاو وتونغا وبابوا غينيا الجديدة. كما تضمّنت الدول الـ12 التي امتنعت عن التصويت، كلاً من فيجي وساموا.
دوافع كاشفة:
لفهم أسباب وقوف بعض الدول الجُزُرِيّة في المحيط الهادئ إلى جانب إسرائيل، لا بدّ من تحليل مجموعة مُتشابكة من الدوافع على النحو التالي:
1- التحالف مع واشنطن: لدى عدد من دول جُزُر المحيط الهادئ، مثل ميكرونيسيا وجزر مارشال وبالاو؛ اتفاقيّات "التحرّر المُرتَبط" مع الولايات المتحدة التي تفرض التزامات مُتَبادِلة في الاقتصاد والدفاع؛ بما يعني أن هذه الدول تحصل على دعم مالي سنوي بمئات الملايين من الدولارات؛ بالإضافة إلى ضمانات أمنيّة تشمل إمكانيّة الدفاع الأمريكي عنها في حال تعرّضها لتهديد خارجي.
وبما أن الولايات المتحدة هي الحليف الرئيسي لإسرائيل، فإن دول جُزُر المحيط الهادئ غالباً ما تتماشى سياستها الخارجية مع نظيرتها الأمريكية، بما في ذلك في الأمم المتحدة، ومنها دعمها لتل أبيب. كما أن هذه الدول تسعى إلى توسيع شبكة تحالفاتها في مواجهة التحدّيات المُتَزايدة في المحيط الهادئ، خاصّةً من حيث التنافس الجيوسياسي المُتَزايد بين الولايات المتحدة والصين. ومن هنا، قد يُنظَر إلى إسرائيل كشريك أمني وتكنولوجي لتلك الدول.
2- توظيف الجانب الديني: يؤدّي البُعد الديني دوراً في تشكيل مواقف بعض دول جُزُر المحيط الهادئ تجاه إسرائيل. ففي ميكرونيسيا وبالاو مثلاً، حيث تسود الطوائف المسيحية الإنجيلية؛ يُنظَر إلى إسرائيل من منظور عقائدي ينعكس في الخطاب السياسي؛ إذ يُعلِن مسؤولون وقادة برلمانيون دعمهم لتل أبيب بوَصفه تضامناً دينياً بقَدر ما هو خيار استراتيجي.
3- السعي إلى تحقيق الاهتمام الجيوسياسي: تسعى دول جُزُر المحيط الهادئ إلى تعويض صِغر حجمها وتهميشها في النظام الدولي، عبر تبنّي مواقف تمنحها نفوذاً رمزياً أكبر من وزنها الفعلي. ومن أبرز هذه الأدوات، دعمها لإسرائيل في المحافل الدولية أو افتتاح بعثات دبلوماسيّة في القدس؛ ما يضعها في دائرة الضوء العالَميّة. وهذا يمنحها فرصة للمُناورة وكسب صفقات أو اعتراف سياسي، ويُسوّق داخلياً كدليل على أن هذه الدول الصغيرة قادرة على جعل صوتها مسموعاً على الساحة الدولية. وبذلك يتحوّل دعم إسرائيل إلى جزء من استراتيجيّة "الخروج من الظلّ الدولي" التي تنتهجها هذه الدول لتعزيز مكانتها داخلياً وخارجياً.
مَخاطِر مُحتَملة:
لا تخلو استراتيجيّة دعم إسرائيل من تداعيات أو مَخاطِر مُحتَملة على دول جُزُر المحيط الهادئ. فبالرّغم من المكاسب الرمزيّة التي تحقّقها هذه الدول، والمساعدات التي تحصل عليها من خلال علاقاتها الجيّدة مع تل أبيب، فإن انحيازها الواضح لها قد يُعرّضها لعواقب، منها ما يلي:
1- العزلة داخل "العالَم الجنوبي"، حيث إن معظم دول الجنوب، ولا سيّما في العالَمين العربي والإسلامي، تُبدي تضامناً مع القضية الفلسطينية؛ لذا فإنّ بعض دول جُزُر المحيط الهادئ التي تُظهِر دعماً لإسرائيل قد تجِد نفسها معزولة أو موصومة داخل تجمّعات إقليمية ودولية.
2- تقويض المصداقيّة الدوليّة، خاصّةً في القضايا التي تتبنّاها الدول الجُزُرِية، مثل تغيّر المناخ؛ فهذه الدول ترفع عادةً شعار "العدالة المناخيّة"، وتُطالِب العالَم بإنقاذها من مخاطر تغيّر المناخ؛ إلّا أن اصطفافها مع إسرائيل قد يُفقِدها جزءاً من المصداقيّة الأخلاقيّة؛ إذ تبدو كمن يتبنّى معايير مُزدَوجة؛ ومن ثمّ يتعرّض موقفها في المُطالَبة بالعدالة المناخيّة للانتقاد.
3- مخاطر أمنيّة؛ فبالرّغم من أن دول جُزُر المحيط الهادئ بعيدة جغرافياً عن الشرق الأوسط؛ فإنّ انخراط بعضها في مُعادَلات مُرتبطة بالصراع بين المعسكر الأمريكي - الإسرائيلي من ناحية، وإيران وحلفائها من ناحية أخرى، قد يجلب لها مَخاطِر أمنيّة، مثل استهداف مصالحها في الخارج.
حدود التأثير:
على الرّغم من الضجّة الإعلامية والدبلوماسية التي تُثيرها العلاقات بين دول جُزُر المحيط الهادئ وإسرائيل، يبقى الوزن الاستراتيجيّ المباشر لهذه الدول في الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي محدوداً للغاية؛ حيث إن عدد سكّان هذه الدول مُجتَمعين لا يتجاوز بضعة ملايين، وقوّتها الاقتصادية والعسكرية ضئيلة للغاية؛ لذا لا يمكن لقراراتها أن تغيّر موازين القوى على الأرض؛ ويبقى تأثيرها رمزياً وإجرائياً على المستوى الدبلوماسي بالدرجة الأولى.
فمن الناحية الرمزيّة، يستخدمها الإسرائيليون للادّعاء بوجود "تقبّل دولي" لموقفهم من الصراع مع الفلسطينيين. كما أن إسرائيل تُبرِز دعم هذه الدول الجُزُرِيّة باعتباره دليلاً على أن العالَم كلّه ليس ضدّها، ممّا يُشَكّل مكسباً دبلوماسياً ولو صغيراً؛ لكنّه مهم في إطار "معركة السرديّة"، ولا سيّما في الإعلام الغربي.
وإجرائياً في الأمم المتحدة، يتم اتخاذ العديد من القرارات بأغلبيّة الأصوات؛ وقد يمثّل كلّ صوت ضدّ قرار مُناهِض لإسرائيل انتصاراً دبلوماسياً صغيراً لها؛ ومن ثمّ فإن الحصول على دعم الدول الجُزُرِيّة قد يُسهِم في عدم تحقيق إجماع دولي ضدّ تل أبيب في بعض القضايا المَعروضة في المَحافِل والمؤسّسات الدولية.
ختاماً، يظلّ تأثير مثل هذه التحالفات أو العلاقات الجيّدة بين بعض دول جُزُر المحيط الهادئ وإسرائيل، واضحاً في إطار "الدبلوماسّية الرمزيّة"؛ لكنّه غير قادر على تغيير الحقائق الجيوسياسية للصراع الفلسطيني -الإسرائيلي. كما أنّ هذه الدول قد تجِد نفسها في مُواجَهة عواقب خياراتها إذا ما تعارضت مثلاً مع موجات أوسع من التضامن الدولي مع فلسطين.
2025-10-16 10:58:15 | 8 قراءة