عِبَرٌ أوليّة بعد وقف حرب الإبادة على غزّة
وقْف الحرب قد يُشَكّل بداية معركة جديدة؛ معركة دبلوماسية وسياسية ووطنية. ومن الضروري في هذه المرحلة استثمار العِبَر المُستَخلصة من الحرب، خاصّة في ظلّ الخلَل الكبير في موازين القوى العسكرية لصالح إسرائيل، والبناء عليها لصياغة رؤية فلسطينية وعربية مشتركة
امطانس شحادة
موقع عرب 48
10/10/2025
مع الإعلان عن التوصّل إلى اتفاقٍ لوقف حرب الإبادة على قطاع غزة، استنادًا إلى خطّة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وبوساطة عربية وتركية نشطة، يمكن البدء في استخلاص بعض العِبَر الأوليّة من هذه الحرب، خصوصًا في السياق الإسرائيلي.
العِبْرَة الأولى تتمثّل في أن إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها الأيديولوجية والعقائدية من الحرب، وفي مقدّمتها تهجير سكّان قطاع غزة، وإعادة احتلاله بالكامل، وعودة الاستيطان فيه. فعلى الرّغم من ما تعتَبره إسرائيل "إنجازات عسكرية" - كالقضاء على جزء كبير من القدرات العسكرية لحركة حماس، واغتيال قيادات سياسية وعسكرية، وقتل آلاف المقاتلين إلى جانب عشرات الآلاف من المدنيين الأبرياء - فإنها لم تنجح في فرض إرادتها الكاملة، ولا في تحقيق أهدافها كاملة تجاه قطاع غزة أو القضية الفلسطينية عمومًا.
منذ بداية حرب الإبادة، لم ينجح العالَم بأسره، ولا الدول العربية، ولا الأمم المتحدة، ولا محكمة الجنايات الدولية، ولا المنظّمات الحقوقية العالَمية، في منع أو حتى تخفيف حجم القتل والدمار والمُعاناة التي لحقت بسكّان قطاع غزة على مدار عامَيْن من الحرب. هذه الحقيقة تشكّل العِبْرَة الثانية من حرب الإبادة، ومفادها أن النظام الدولي، بمؤسّساته وقوانينه، أثبَت عجزه الكامل عن حماية المدنيين الفلسطينيين أو فرض حدٍّ أدنى من المساءلة على مُرتَكِبي الجرائم. لقد برهَنت الحرب على أنّ من الممكن، في القرن الحادي والعشرين، ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعيّة ظنّ العالَم أنه تخلّص منها منذ الحرب العالمية الثانية.
أما من نجح فعليًا في مواجهة الإبادة ورفضها والضغط باتجاه وقف الحرب، فكانت الشعوب. هذه هي العِبْرَة الثالثة من حرب الإبادة على غزة. فقد أثبتَت شعوب العالَم أن إرادة الجماهير قادرة على تحريك الرأي العام العالَمي حول قضية إنسانية وأخلاقية عميقة، ورفض الظلم والدمار والقتل الجماعي. فلا يمكن تخيّل التحوّل في مواقف حكومات أوروبية مركزية، مثل إسبانيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، من دون موجات الاحتجاج والمُظاهَرات التي عمّت شوارع تلك البلدان، والتي أجبَرت قادتها على إعادة النظر في مواقفهم أو تخفيف حدّة تأييدهم لإسرائيل.
وفي أميركا اللاتينية، عبّرت الشعوب بحريّة ووضوح عن دعمها للقضية الفلسطينية ورفضها لسياسات الإبادة الإسرائيلية، رغم وجود بعض الحكومات اليمينية التي تبنّت الرواية الإسرائيلية بالكامل. ومع ذلك، فإنّ صوت الشارع فرَض نفسه، ودفَع حتى أكثر الحكومات تواطؤًا إلى الصمت أو التراجع أمام الغضب الشعبي العارم.
كما كان للاحتجاجات والمُظاهَرات حول العالَم دور في الضغط على الرئيس الأميركي دونالد ترامب. إذ لم تأتِ مبادرة ترامب لوقف الحرب من فراغ، بل نتيجة تراكم عوامل سياسية وشعبية ضاغطة، منها التحوّل في مواقف الدول الأوروبية التي بدأت بالاعتراف بدولة فلسطين، وتمادي إسرائيل في استخدام القوّة العسكرية المُفرطة، بما في ذلك الهجوم الإسرائيلي في الدّوحة، وتزايد الغضب الشعبي العالَمي. وكذلك كان للاحتجاجات داخل الولايات المتحدة نفسها، وخاصّة في الجامعات والمُدُن الكبرى، تأثير على طرح خطّة ترامب. فحتى الرئيس الأكثر غرورًا ونرجسيّة لم يكن قادرًا على تجاهل تغيّر المزاج العام الأميركي، ولا التحوّل داخل قواعد الحزب الجمهوري نفسه، وخصوصًا بين فئة الشباب المُحافِظين الذين بدأوا ينظرون إلى الحرب بعين النقد والرفض الأخلاقي.
العِبرة الرابعة هي أن القضية الفلسطينية لم تعد فقط قضية إنسانية أو أخلاقية، ولا مجرّد بند في سياسات الدول الخارجية التي تخضع لمُعادَلات المَصالِح وموازين القوى الدولية. لقد تحوّلت إلى قضية سياسية داخلية في معظم دول العالم. فالأحزاب والقيادات والحكومات باتت تُدرك أن موقفها من حرب الإبادة في غزة يمكن أن ينعكس مباشرة على موازينها الانتخابية، وعلى أنماط التصويت وسلوك الناخبين، خاصّة بين فئات الشباب. هذا التحوّل لن يختفي بانتهاء العمليات العسكرية وحرب الإبادة، بل سيَظلّ حاضرًا في الخطاب السياسي العالَمي لسنوات طويلة، مؤثّرًا في تشكيل الرأي العام وصياغة السياسات.
العِبرة الخامسة التي تبرز من حرب الإبادة على غزة هي أن إسرائيل، رغم تفوّقها العسكري الهائل وتططوّرها الاقتصادي والتكنولوجي، ما زالت بعيدة عن أن تكون كيانًا مُكتَفيًا بذاته. إسرائيل ما زالت تعتمد بشكل جوهري على المساعدات العسكرية والاقتصادية الأميركية، وعلى علاقاتها التجارية والاستثمارية مع أوروبا. فقد تَبَيّن أن أيّ تجميد أو تقييد لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي – الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل – سيكون ضربة قاسية لاقتصادها وصناعاتها وأسواقها المالية. كما بدأت الأكاديمية الإسرائيلية تُواجِه عزلة مُتزايدة نتيجة المقاطعات غير الرسمية من جامعات ومؤسّسات بحثيّة غربية، مع مخاوف حقيقية من استبعادها من برامج دعم الأبحاث الأوروبية.
باختصار، اكتشفت إسرائيل حدود قوّتها. فهي ليست جزيرة اقتصادية أو أكاديمية أو ثقافية قادرة على الانعزال عن العالَم، ولا يمكنها التحوّل إلى "إسبرطة" عسكرية مُكتَفية بذاتها. فوجودها، أمنها واقتصادها، ما زال مرهونًا بقبول العالَم لها، وبعلاقاتها مع الغرب - وهذه الحقيقة ربما تكون الدرس الأهم الذي ستظلّ تتعامل معه إسرائيل في مرحلة ما بعد الحرب.
بالإمكان الضغط على إسرائيل
كلّ ما شهِدناه خلال حرب الإبادة على غزة وما بعدها يقود إلى العِبْرَة السادسة، وهي أن إسرائيل ليست مُحَصّنة أمام الضغط الخارجي. فقد أثبتت التجربة أن الاحتجاجات والمقاطعات، والتحرّكات الدبلوماسية، وحتى التبدّلات في الرأي العام الغربي، قادرة على التأثير في سلوك إسرائيل.
إسرائيل ليست عصيّة على العزلة الدولية، ولا على موجات الرفض الشعبي الواسعة. ومع تصاعد المقاطعات الأكاديمية والثقافية، وتزايد الانتقادات الدولية، بدأت إسرائيل تُدرك أن صورتها تتآكل، وأن استمرار الحرب يُكَلّفها سياسيًا واقتصاديًا.
في المقابل، من المُجدي أن تُدرك الدول العربية أنّ لديها أدوات ضغط حقيقية — اقتصادية، واستراتيجية، وأخلاقية — لكنها لم تُستَخدم بعد بالقدر الكافي. فالقوّة الاقتصادية الخليجية، والموقع الجغرافي الاستراتيجي، وحاجة الولايات المتحدة إلى الاستثمارات والطاقة العربية، كلّها عوامل يمكن أن تتحوّل إلى أوراق تأثير فاعلة. وعندما تتوحّد هذه العوامل ضمن رؤية جماعية ومُنَسّقة، يمكن أن يكون أثَرها ملموسًا. وكما أثبتت التجربة الأخيرة، حتى لو لم تكن هذه الأدوات هي العامل الحاسم في إنهاء الحرب، فإنها كانت عاملاً مهمًّا.
تراجع القوّة الناعمة الإسرائيلية
سعت إسرائيل، منذ السابع من أكتوبر 2023، إلى تغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط وفرض هيمنتها السياسية والعسكرية على الإقليم، عبر استخدام أقصى درجات القوّة والتدمير. ولا يمكن إنكار حجم الدمار الذي أحدَثته إسرائيل في غزة، ولا الأثر العسكري الواسع لعمليّاتها في المنطقة. إذ تتباهى إسرائيل علَنًا بما تعتبره "إنجازات" عسكرية: تدمير البنية التحتيّة في غزة، وقتل عشرات الآلاف من المدنيين، واغتيال قادة المقاومة، وتوجيه ضربات إلى ما تسمّيه "محور المقاومة". لكنها، في المقابل، فقدت العديد من عناصر القوّة الناعمة والشرعية الدولية التي راكمتها على مدى عقود، والتي كانت تُشَكّل أحد أعمدة قوّتها الحقيقية.
لقد استخدمت إسرائيل، على مدار السنوات الماضية، أدوات الاقتصاد والتكنولوجيا لتسويق ما سُمّي بـ"المعجزة الإسرائيلية" وبلَد "الستارت أب" المُبتَكِر، واستثمرَت في الأكاديمية والثقافة والرّياضة والفن لتجميل صورتها عالَميًا وتلميع الرواية الصهيونية. كما بنَت شراكات استراتيجيّة متينة مع الاتحاد الأوروبي وتحالفًا بنيويًا مع الولايات المتحدة، وحظِيت بدعم شعبي ودبلوماسي واسع في الغرب. لكن هذه الرّكائز، التي شكّلت قوّتها الرمزيّة، بدأت تتآكل بعد حرب الإبادة على غزة، مع انكشاف الوجه الحقيقي لسياساتها أمام الرأي العام العالَمي، وتراجع صدقيّتها الأخلاقيّة والإنسانيّة.
الآن، وبعد حرب الإبادة على غزة، بدأت صورة إسرائيل ومكانتها الدولية تتبدّل بعُمق. فإسرائيل التي تدّعي أنها "دمّرت قطاع غزة"، تُدرِك اليوم — على الأقل في أوساط نخب فكرية وسياسية واسعة — أنها دمّرت أيضًا صورتها ومكانتها التي راكمتها لعقود طويلة. لقد خسرت إسرائيل العديد من روافع القوّة الناعمة التي ساعدتها على تبرير سياساتها في السابق، وأضعفت قدرتها على التأثير في الرأي العام العالَمي كما في الماضي.
إسرائيل، وخاصّة التيّار اليميني الحاكِم، الذي سعى طيلة العقود الأخيرة إلى تطبيع الاحتلال وتحويله من قضية استعمار إلى خلاف على الحدود، يجِد نفسه اليوم أمام عودة القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العالَمي، كـقضية أخلاقية وإنسانية ومسألة تحرّر وطني.
إسرائيل التي تعاملت مع تقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة كمصلحة قومية استراتيجيّة، قد تجِد نفسها أمام واقع مختلف يتمثّل في احتمال إعادة توحيد المشروع الوطني الفلسطيني، وعودة النقاش الدولي حول حلّ سياسي شامل.
من الواضح أن وقف الحرب على غزة لا يعني نهاية الحرب، ولا إغلاق ملفّ الاحتلال. فمن المُرَجّح أن تُواجِه إسرائيل صعوبة كبيرة في العودة إلى الحرب بالصيغة ذاتها وبنفس الحجم، بعد تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق تبادل الأسرى وبدء الترتيبات السياسية. ومع ذلك، فإن احتمال استمرار الحرب بأشكال وأدوات أخرى أقلّ حدّة وزخمًا يظلّ قائمًا.
لذلك، فإن وقْف الحرب قد يُشَكّل بداية معركة جديدة؛ معركة دبلوماسية وسياسية ووطنية. ومن الضروري في هذه المرحلة استثمار العِبَر المُستَخلصَة من الحرب، خاصّة في ظلّ الخلَل الكبير في موازين القوى العسكرية لصالح إسرائيل، والبناء عليها لصياغة رؤية فلسطينية وعربية مشتركة قادرة على مواجهة السياسات الإسرائيلية، ومنعها من فرْض رؤيتها وأهدافها في اليوم التالي للحرب.
2025-10-14 12:14:13 | 31 قراءة