غزّة أحبطت مخطّطات ترامب ونتنياهو بـ"الريفييرا" و"الكولونيّة"
صمَدت غزّة في وجه الموت والدمار، تحت 200 ألف طن من القذائف والمتفجّرات. صمَدت بصبر نسائها، بعزم رجالها، وتحدّي أطفالها؛ وأفشلت مخطّطات التهجير والاستيطان، وأحلام تحويلها إلى صفقة عقاريّة رابحة أو "ريفييرا" سياحيّة...
سليمان أبو ارشيد
موقع عرب 48
9/10/2025
مع توقيع "اتفاق شرم الشيخ" الذي يُنهي حرب الإبادة المُتَواصِلة منذ سنتين على قطاع غزة، ربما يَطوي شعبنا فَصْلًا من أشد فُصول الصراع وأكثرها دمويّة مع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، الذي لم يتوقّف، منذ أن وطأت قَدَمُه أرض فلسطين، وخلال قرن من الزمن، عن محاولات المحو والإزالة والتهجير والتطهير العِرقي، تحقيقًا للمقولة الصهيونية: "فلسطين أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرض".
بهذا المعنى، فإنّ حرب الإبادة الدمويّة، بكلّ ما زرَعته من موت وفقْد وتقتيل ودمار وخراب غير مسبوق في تاريخ الحروب والصراعات، هي حلقة في مسلسل الصراع الطويل مع مشروع كولونيالي يسعى، في مرحلته الحالية، إلى الاستحكام وفرْض السيطرة الاستعمارية على كامل فلسطين التاريخية، والتمدّد والهيمَنة على المنطقة، في ظلّ حالة شرذمة وانقسام فلسطيني، وواقع من الإعياء والتشتّت العربي.
ولا غرابة، والحال كذلك، أن يترافق الصمود الفلسطيني الأسطوري على أرض غزة مع حالة من القصور والخذلان العربي والإسلامي غير المسبوق، وصمت معيب على عمليات الحصار والإبادة والتجويع، التي حَرّكت قلوب وضمائر الملايين حول العالَم، دون أن تُلامِس نخوة حُكّام الدول العربية، أو تهزّ مشاعر شعوبها وتُخرِجها من دائرة الصمت.
في ذات الوقت، كشفت حرب الإبادة على غزة طابع إسرائيل العدواني، ومراميها في السعي الدؤوب لإزالة ومحو الشعب الفلسطيني، واستكمال عملية تهجيره من أرضه التي بدأتها عام 1948. ولا يمكن فهم النتائج الكارثيّة لحرب الإبادة، حيث يغدو قتل المدنيين وتدمير بيوتهم وحياتهم وتهجيرهم وتجويعهم أهدافًا رئيسية للحرب، إلّا في هذا السياق.
وبينما تُفيد التقديرات الرسمية بأن أكثر من 60 ألف شهيد قتلَتهم إسرائيل في حرب الإبادة، نصفهم من النساء والأطفال، وأكثر من 160 ألف جريح – وهي بحدّ ذاتها أرقام صادمة – أفاد تقرير أعَدّه الباحث الإسرائيلي في جامعة بن غوريون، يعقوب غارب، ونُشِرَ عبر منصّة البيانات المفتوحة التابعة لجامعة هارفارد، بأنّ 377 ألف شخص "غير معروف أماكنهم"، حيث اعتمَد الباحث على مُقارَنة بين عدد السكّان الإجمالي لقطاع غزة قبل الحرب (المُقَدَّر بـ2.227 مليون نسمة) وبين عدد السكّان الموجودين فعليًا في ثلاث مناطق رئيسية بعد الهجوم الإسرائيلي الواسع والمُستَمر، والذي يبلغ 1.85 مليون نسمة فقط.
أما في باب الإبادة العمرانيّة، فتُشير التقديرات إلى أن إسرائيل دَمّرت بين 70% إلى 90% من مباني القطاع وبيوته وبُناه التحتيّة العمرانيّة؛ وهي نسبة تتجاوز بكثير حجم الدمار الذي أحدَثته غارات الحُلفاء على مدينة دريسدن الألمانية الشهيرة خلال الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا السياق، يُفيد تحليل أجراه مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية، لبيانات تعود إلى تمّوز/ يوليو، أن حوالي 193 ألف مبنى في غزة تَعَرّض للدمار أو للأضرار، بينها 213 مستشفى و1029 مدرسة. ووفقًا لمُعطَيات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن 95% من مدارس القطاع قد تضرّرت بشكل جزئي أو كلّي نتيجة القصف.
وكان مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية قد أفاد، في التاسع من تمّوز/ يوليو، بأنّ ما يُقَدّر بنحو 436 ألف وحدة سكنيّة (92 في المئة من إجمالي الوحدات) قد تعرّضت للأضرار أو التدمير؛ إذ تضرّر أو دُمّر 70% من جميع المَباني، و81 في المئة من جميع الطُرُق في القطاع. كما أشار تقرير للأمم المتحدة صدَر في نيسان/ أبريل الماضي إلى أن 83% من الأراضي الصالحة للزراعة، و83% من آبار المياه الزراعية، و71% من الصّوبات الزراعية، تعرّضت للتدمير.
ومن الطبيعي أن يترافق هذا الدمار العظيم، الذي أحدثَته آلة الحرب الإسرائيلية في العمران والمباني السكنيّة، مع حركة نزوح هائلة، لتُحَقّق بذلك هدفًا مركزيًا آخر من أهداف الحرب، وهو التهجير. وبحسب الأمم المتحدة، فإن تسعة من كلّ عشرة من سكّان غزة (90% من السكّان)، البالغ عددهم 2.1 مليون نسمة، قد نزَحوا من منازلهم خلال الحرب المستمرّة منذ عامين، في ظلّ حدود شبه مُغلَقة.
هذا، في حين أفادت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بأن عدد النازحين قَسْرًا في قطاع غزة قد بلغ 1.9 مليون شخص. بينما يقول مؤرّخون وأكاديميّون متخصّصون في النزاعات والتهجير القسري والقانون الدولي، إن النزوح الذي شهِده سكّان غزة "غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية"؛ كما أن نقص الأماكن الآمِنة التي يمكن الانتقال إليها، والنزوح المتكرّر داخل منطقة صغيرة ومكتظّة بالسكّان، أمرٌ غير معهود بصورة كبيرة في النزاعات.
لكن، رغم كلّ ذلك، صمَدت غزة في وجه الموت والدمار، تحت 200 ألف طن من القذائف والمتفجّرات. صمَدت بصبر نسائها، بعزم رجالها، وتحدّي أطفالها؛ وأفشلت مخطّطات التهجير والاستيطان، وأحلام تحويلها إلى صفقة عقارية رابحة أو "ريفييرا" سياحيّة؛ تلك التي داعبَت خيالات ترامب وسموتريتش ونتنياهو المريضة. وبقي أهل غزة في أرضهم، وسيَرحل المُحتَل، عاجلًا أم آجلًا.
2025-10-14 12:10:47 | 27 قراءة