التصنيفات » مقالات سياسية

تَحالفات مُتنافسة: دلالات التقارب الاستراتيجي بين الشرق الأوسط وجنوب القوقاز

تَحالفات مُتنافسة:
دلالات التقارب الاستراتيجي بين الشرق الأوسط وجنوب القوقاز

السفير الدكتور/ عزت سعد
مدير المجلس المصري للشؤون الخارجية، ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة 
08  سبتمبر، 2025


تُمَثّل منطقتا الشرق الأوسط وجنوب القوقاز (التي تضم كلاً من أذربيجان وأرمينيا وجورجيا)، مساحات جيوسياسية ذات أهميّة كبيرة؛ بسبب وفرة المَوارد، وخاصّةً الطاقة، والطُرُق الإقليمية والدولية الحيويّة؛ فضلاً عن مُواجَهة التهديدات الأمنيّة، مثل التطرّف والإرهاب، والتنافس بين القوى الكبرى. وتتمثّل الارتباطات بين المنطقتين في التعاون والتنافس في مجالات عدّة، يتصدّرها الاقتصاد والطاقة، والدفاع والأمن، والتكنولوجيا؛ بالإضافة إلى أدوار الوساطة من قِبَل بعض الدول في المنطقتين. 
وقد شهدت منطقتا الشرق الأوسط وجنوب القوقاز تحوّلات استراتيجيّة منذ عام 2020؛ بحيث يمكن القول إنهما لم تعودا مُجَرّد ساحة لصراعات إقليمية محدودة، بل أصبحتا مركزاً محورياً في لعبة القوى الدولية الكبرى. ويعود التقارب بين المنطقتين إلى مجموعة من العوامل، أبرزها التراجع النسبي للهيمَنة الغربيّة عليهما، وتحديداً منذ الولاية الأولى لإدارة دونالد ترامب؛ قبل أن يعود هذا الاهتمام مرّة أخرى في ولاية ترامب الثانية، وتراجع النفوذ الروسي في جنوب القوقاز بسبب حرب أوكرانيا؛ بالإضافة إلى رغبة دول المنطقتين في بناء شراكات اقتصاديّة وأمنيّة جماعيّة تستهدف تحقيق أجندات مشتركة، تتراوح بين تعزيز أمن الطاقة، وتأمين ممرّات التجارة البحريّة والبريّة، والدفاع عن مَصالِح دول المنطقتين.
عوامل التقارب:
يُمَثّل التقارب الاستراتيجي المَلحوظ بين منطقتي الشرق الأوسط وجنوب القوقاز، تحوّلاً جذرياً، مَدفوعاً بمجموعة من العوامل الجيوسياسية والاقتصادية التي قد تُعيد رَسم خريطة التحالفات الإقليمية والدولية. وقد فتَح هذا التقارب الباب أمام استثمارات خليجية ضخمة في منطقة جنوب القوقاز؛ ممّا يُعَزّز استراتيجيّة دول الخليج لدعم مصالحها، ومدّ جسور اقتصادية مُباشِرة إلى آسيا الوسطى التي تزايدت أهميتها  الاستراتيجية في السياسة العالَميّة خلال السنوات الأخيرة، وذلك بعيداً عن المَسارات التقليدية التي قد تكون مَرهونة بتركيا أو إيران أو روسيا أو الصين. 
وقد تكون الولايات المتحدة الأمريكية فاعلاً رئيسياً في التحوّلات الجارية بالمنطقتين؛ حيث تحكمها في ذلك خدمة مَصالِح إسرائيل وهواجسها الأمنيّة؛ ومن ثمّ إعطاء الأولويّة لدَمج "إسرائيل" مع الدول الحليفة، سياسياً واقتصادياً. غير أنه باستثناء "إسرائيل"، تسعى دول المنطقتين إلى تعزيز استقلاليّتها من خلال الانفتاح على قوى مُتَنَوّعة، وتوسيع دائرة شراكاتها، وإقامة علاقات مع مُبادَرات وتحالفات غير أمريكية، مثل مجموعة البريكس، ومنظّمة شنغهاي للتعاون. وفي أعقاب الزلزال الجيوسياسي العالَمي الذي نتَج عن حرب روسيا مع أوكرانيا، والتوتّرات المُتَزايدة بين الصين والولايات المتحدة؛ تَزايد اهتمام دول المنطقتين، وغيرها من بُلدان ما يُسَمّى بـ"الجنوب العالَمي"، بالتحوّط في سياساتها وتنويع خياراتها. وتتّضح عوامل التقارب في الآتي:
1- التحالفات الدفاعية وجهود الوساطة: يكتسب التقارب الاستراتيجي بين منطقتي الشرق الأوسط وجنوب القوقاز أبعاداً حيويّة في مجالات الأمن والدفاع؛ حيث تتفاعل اعتبارات الهويّة التاريخية والخطاب القومي مع حسابات استراتيجيّة لمُواجَهة تحدّيات مشتركة وتعزيز السيادة الإقليمية.
وفي هذا السياق، يُمَثّل التحالف الدفاعي القوي بين تركيا وأذربيجان، الذي يقوم على مبدأ "شعب واحد في دولتين"، ركيزة أساسية لتشكيل محور جيوسياسي جديد قد يُعيد رَسم خريطة القوّة في جنوب القوقاز. ولم يَظهر هذا التحالف فجأة، بل نضج عبر سنوات من التعاون الثنائي، وتم اختباره بشكل قاطع خلال حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020، عندما قدّمت أنقرة دعماً عسكرياً وسياسياً مُباشِراً وقوياً لأذربيجان. ووفقاً لبيانات وزارة الدفاع الأذريّة، استخدَمت القوّات الأذريّة طائرات من دون طيّار تركية من طراز "بيرقدار تي بي 2" في عملياتها العسكرية؛ كما درّبت تركيا عناصر من الجيش الأذري ودخلت في ترتيبات مع باكو لتزويد جيشها بأسلحة ومعدّات عسكرية حديثة. وتكرّر هذا الدعم التركي لأذربيجان في مُواجَهتها العسكرية مع أرمينيا في سبتمبر 2023، وصولاً إلى ترحيبها بالإعلان المُشتَرك حول السلام بين باكو ويريفان؛ الذي جرى توقيعه في واشنطن برعاية ترامب في 8 أغسطس 2025. 
وقد جرى تقييم هذا الدعم العسكري التركي على أنه جزء من استراتيجيّة أوسع لتأكيد التزام أنقرة بالتحالف الاستراتيجي مع باكو. وانعكس ذلك في تأكيد الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، وقوف بلاده الكامل مع أذربيجان؛ كما أظهَرت المُناوَرات العسكرية المُشتَركة بين البلدين استعدادهما للتدخّل المباشر ضدّ أرمينيا في حال اقتضى الموقف ذلك. وينطوي التحالف التركي الأذري على تداعيات جيوسياسية عميقة؛ إذ إنه يُعَزّز مَكانة أذربيجان كقوّة إقليميّة في جنوب القوقاز، ويمنحها ما يكفي من الثقة لمُواجَهة جيرانها. ومن ناحية أخرى، فإنه يُشَكّل تحدّياً للنفوذ الروسي التقليدي في هذه المنطقة، والذي يعتمد على التحالف العسكري مع أرمينيا؛ الدولة العضو في منظّمة معاهدة الأمن الجماعي التي تأسّست بمُبادَرة روسية عام 1992. 
ويُضاف إلى ذلك، التعاون العسكري بين "إسرائيل"  وأذربيجان؛ حيث تُشير تقديرات "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" إلى أن "إسرائيل"  زَوّدت أذربيجان بنحو 70% من وارداتها من الأسلحة خلال الفترة من 2016 وحتى 2020، بما فيها مُسَيَّرات انتحارية ومنظومة صواريخ دفاع جويّ من طراز القبّة الحديديّة؛ ممّا منَح باكو تفوّقاً في حربها مع أرمينيا. 
على صعيد آخر، تَبرز دولة الإمارات كفاعل مهم في جنوب القوقاز، من خلال دور الوساطة والدبلوماسية والبناء على قدراتها الاقتصادية لتعزيز نفوذها. وفي هذا الصّدد، استضافت أبوظبي، في يوليو الماضي، لقاءً جمَع بين رئيس أذربيجان، إلهام علييف، ورئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان؛ حيث تمّ بحث سُبُل دعم الجهود الرّامية إلى بناء الثقة بين البلَدين، وتعزيز الاستقرار في منطقة جنوب القوقاز. ومَهّدت هذه القمّة إلى توقيع اتفاق 8 أغسطس الماضي بين باكو ويريفان برعاية أمريكية، والذي بموجبه رفعَت واشنطن القيود المفروضة منذ سنوات على التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وأذربيجان. ولا شك في أن هذا الدور الدبلوماسي المَدعوم بعلاقات قويّة مع كلّ الأطراف، يمنَح دولة الإمارات نفوذاً لا يُستَهان به. كذلك تأتي استثمارات الإمارات في كلٍ من أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، ضمن استراتيجيّة أوسع لتطوير البنية التحتيّة والقدرات الإنتاجيّة في دول المنطقة.
على جانب آخر، استضافت باكو، برعاية أمريكية، اجتماعين بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، في شهر يوليو الماضي، بعد أحداث العنف التي شهدتها محافظة السويداء. وتزامن الاجتماع الأوّل مع زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى باكو في 12 يوليو الماضي؛ ثم عُقِد اجتماعٌ ثانٍ في أواخر نفس الشهر بين وزير الخارجية السوري، أسعد الشيباني، ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي، رون ديرمر. 
2- الشراكات الاقتصادية: إن التقارب الاستراتيجي بين الشرق الأوسط وجنوب القوقاز لم يكن ليَتحقّق لولا وجود أساس اقتصادي متين، مدعوم بصفة خاصّة بالتعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتيّة. وقد برَز هذا التعاون كركيزة رئيسية في تشكيل محور جديد من الشراكات أو التحالفات. ويقع محور الطاقة في قلب هذه الشراكات الاقتصادية؛ ويُمَثّل مَمَرّ الغاز الجنوبي SGC نموذجاً لأحد أهم المشاريع الهندسية والجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين، ويمتد إلى مسافة تزيد على 3500 كيلومتر؛ ويبدأ من حقل "شاه دنيز" في بحر قزوين، وينطلق عبر خطوط أنابيب "ترانس - أناضول" TANAP، قبل أن يصل إلى أوروبا، عبر خط أنابيب "ترانس – أدرياتك" TAP.
وباتت أذربيجان المُوَرّد الرئيسي للغاز الطبيعي لتركيا منذ عام 2020، في ظلّ تراجع واردات الغاز الروسي. ومع ذلك، رفضت أنقرة في أغسطس الماضي خطّة الاتحاد الأوروبي للاستغناء عن واردات الغاز الروسي بحلول عام 2027، مؤكّدة أنها لا تُطَبّق سوى العقوبات التي يقرّها مجلس الأمن الدولي. ويُعَزّز هذا الموقف تصميم تركيا على المُضي قُدُماً في استراتيجيّتها لأن تكون مركزاً لتوزيع الطاقة، والبوّابة الأوروبية للغاز الروسي، الذي يظل الأرخص مُقارَنةً بالإمدادات الأخرى. من ناحية أخرى، تَتزايد استثمارات الشركات الأذريّة في تركيا؛ حيث أعلنَت شركة النفط الحكومية الأذرية SOCAR في أغسطس الماضي، عن خطط لاستثمار 7 مليارات دولار في قطاع الطاقة في تركيا في السنوات المقبلة؛ ممّا يعكس عمق التكامل الاقتصادي بين البلدين. 
ومن ناحية أخرى، شهِدت العلاقات بين دولة الإمارات وأذربيجان تطوّرات إيجابية، تمّ تتويجها بتوقيع اتفاقيّة الشراكة الاقتصادية الشاملة بين البلدين في يوليو 2025، ونمَت التجارة الثنائيّة غير النفطية بينهما بنسبة 43% على أساس سنوي، لتصل قيمتها إلى 2.4 مليار دولار بنهاية 2024. وبلغَت الاستثمارات الإماراتيّة المُباشِرة في أذربيجان أكثر من مليار دولار، وتشمل قطاعات حيويّة مثل الطاقة المُتَجَدّدة، والبنية التحتيّة، والسياحة. وبالمثل، ترتبط دولة الإمارات بعلاقات متطوّرة مع أرمينيا؛ حيث تحتلّ الإمارات المَرتبة الثانية بين الشركاء التجاريين لأرمينيا عام 2023، وبلَغ إجمالي التجارة بين البلَدين نحو 2.85 مليار دولار، وقفَزت خلال الربع الأوّل من عام 2024 إلى نحو 2 مليار و173 مليون دولار، وفقاً لبيانات وزارة الخارجية الإماراتية. 
أيضاً، تُعَدّ دولة الإمارات الشريك التجاري الأوّل لجورجيا في العالَم العربي، بحصّة تفوق 63% من إجمالي التبادل التجاري لجورجيا مع المنطقة. وتنامَت العلاقات الاقتصادية بين البلَدين، ووصَلت التجارة الثنائيّة غير النفطية إلى 511.2 مليون دولار عام 2023. كما تُعَدّ الإمارات سادس أكبر مُستَثمر عالَمي في جورجيا، بحصّة 5% من إجمالي تدفّقات الاستثمارات الأجنبية المُباشِرة إليها. ومع دخول اتفاقيّة الشراكة الاقتصادية الشاملة بين الإمارات وجورجيا حَيّز التنفيذ رسمياً في يونيو 2024، من المُتَوَقّع أن تُسهِم في مُضاعَفة قيمة التجارة غير النفطية بينهما لتصلَ إلى 1.5 مليار دولار بحلول عام 2031.
الخلاصة هنا أن التقارب بين منطقتي الشرق الأوسط وجنوب القوقاز في المجال الاقتصادي، وفي قطاع الطاقة تحديداً؛ يُنظَر إليه على أنه ليس مجرّد صفقات تجارية، وإنما صياغة لنظام اقتصادي جديد يهدف إلى تحقيق الاستقرار وتأمين مصادر الطاقة، وتطوير بنية تحتيّة لوجستيّة قويّة. وبجانب الطاقة، يؤدّي الاقتصاد الرّقمي والبنية التحتيّة اللوجستيّة دوراً مُتَزايد الأهميّة. فالتقارب التجاري والسياسي يدعمان بشدّة البنية التحتيّة الرقميّة، مثل بناء مراكز بيانات في أذربيجان لمُواكَبة التحوّل الرّقمي وتعزيز التعاون في تقنيّات الذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال. ويرتبط هذا التطوّر بمُحاوَلات دول المنطقتين إقامة محاور لوجستية وتجارية. فعلى سبيل المثال، فإن الاتفاقيّة الشاملة للشراكة الاقتصادية بين دولة الإمارات وأذربيجان جزء من استراتيجيّة أوسع لإنشاء ممرّات نقل بحريّة وبريّة تعتمد على أذربيجان كبوّابة تربط آسيا الوسطى بالأسواق الأوروبية والأمريكية. ويُنظَر إلى مثل هذه المشاريع على أنها مُقارَبة جيوسياسية تهدف إلى إعادة تشكيل شبكة التجارة العالَميّة.
مُبادَرات التكامل الإقليمي:
أدّى التقارب الاستراتيجي بين منطقتي الشرق الأوسط وجنوب القوقاز، من خلال تحالفات وشراكات ثنائيّة أو جماعيّة؛ إلى فتح الباب أمام مُبادَرات تكامل إقليمي طموحة، تُشَكّل ساحة تنافسية بين قوى عالَميّة ودول إقليمية. ويدور التنافس هنا حول المَسارات المُقترَحة لربط منطقة آسيا الوسطى، التي باتت ساحة للتنافس بين القوى الدولية والإقليمية مع صعودها الجيوستراتيجي عالَمياً نتيجة لثرواتها من الطاقة والمَعادِن النادرة وأهميّتها كمَمَر وطريق تجاري وطاقوي رئيسي، بالأسواق العالَميّة، وتحديداً أوروبا والشرق الأوسط. ويُشار في هذا السياق إلى مَمَرّين رئيسيين هما: 
1- المَمَرّ الأوسط: المعروف أيضاً باسم "طريق التنمية" أو "القناة الجافّة"، وهو المشروع الذي تدعمه تركيا وأذربيجان، ويهدف إلى بناء شبكة مُتَكامِلة من الطُرُق والسكك الحديديّة والخطوط الجويّة وأنابيب نقل الطاقة لربط الصين وآسيا الوسطى وأذربيجان ببحر إيجه عبر تركيا؛ ومن ثمّ بالبحر الأبيض المتوسّط، وصولاً إلى شمال إفريقيا وجنوب أوروبا. وتتمثّل البنية التحتيّة المُرتبِطة بهذا المَمَر في خط سكة حديد "باكو – تبليسي – قارص" BTK  الذي افتُتِح عام 2017، وتزداد طاقته الاستيعابية تدريجياً، ومشروع خط أنابيب "ترانس – أناضول" TANAP  الذي ينقل الغاز الأذري مُباشَرة إلى تركيا وأوروبا.
والهدَف من هذا المَمَر هو توفير بديل آمِن وفَعّال، وتجنّب المرور عبر روسيا أو إيران، ولا سيّما في ظلّ العقوبات الغربية على البلَدين؛ ممّا يمنَح دول المنطقتين استقلاليّة أكبر في تدفّقاتها التجارية، وتعاونها في مجال الطاقة. كما أنه يُعَزّز مَكانة تركيا كمركز استراتيجي لعبور البضائع والطاقة من آسيا الوسطى إلى أوروبا.
2- المَمَرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا: هو مُبادَرة أخرى أُعلِن عنها في قمّة العشرين في نيودلهي في سبتمبر 2023، ويهدف إلى إنشاء شبكة مُتَكامِلة من الموانئ والسكك الحديديّة وخطوط الأنابيب، تربط الهند بالشرق الأوسط، ومنه إلى أوروبا؛ ومن ثمّ فإنه يُعَزّز موقع دول الخليج العربية كمركز عبور عالَمي للطاقة والبضائع. ويَحظى هذا المشروع بدعم قويّ من الولايات المتحدة؛ حيث تعتبره مُنافِساً لمُبادَرة "الحزام والطريق" الصينيّة؛ لكنّه في الوقت نفسه يُمَثّل تحدّياً لمشروع المَمَرّ الأوسط. وأدّت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وما تَرَتّب عليها من تداعيات إقليمية كبيرة، إلى تعطّل تنفيذ المَمَرّ الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا.
وبشكل عام، يُفَسّر هذا التنافس في مجال المَمَرّات، ليس فقط بالرّغبة في إعادة تشكيل خريطة التجارة العالَميّة؛ وإنّما أيضاً باعتبارات الهيمَنة؛ حيث يُمَثّل كل مَمَر رؤية مختلفة للتكامل الإقليمي، مع تفضيلات سياسية واقتصادية مختلفة. فالمَمَرّ الأوسط  يُرَكّز على تكامل منطقة جنوب القوقاز مع أوروبا عبر تركيا، بينما يُرَكّز المَمَرّ الثاني على ربط آسيا الوسطى والهند بأسواق الشرق الأوسط وأوروبا.
ومن الواضح أن هذه المُبادَرات لا تخدم فقط أغراضاً اقتصادية، بل هي أدوات جيوسياسية تهدف إلى بناء كتل اقتصادية قويّة يُمكِنها المُنافَسة في سياق تنافس القوى العظمى، ممّا يضع منطقتي الشرق الأوسط وجنوب القوقاز في قلب لعبة القوى الكبرى العالَميّة. ويُشار في ذلك إلى أن روسيا تُواجِه تحدّياً قد يُضعِف نفوذها بسبب التحالف القوي بين تركيا وأذربيجان، اللتان تُفَضّلان التعاون مع الغرب والقوى الإقليمية الأخرى على الاعتماد على موسكو. وقد أدّى ذلك إلى فقدان روسيا احتكارها دور الوسيط، خاصّةً في النزاع حول إقليم ناغورنو كاراباخ؛ حيث أدّت دوراً في وقف إطلاق النار عام 2020، إلّا أنها لم تتمكّن من منع انتصار أذربيجان. إضافة إلى ذلك، تُواجِه موسكو تحدّياً اقتصادياً مُباشِراً في مجال الطاقة. فقد أدّى توسيع مَمَر الغاز الجنوبي، الذي دعمَته أوروبا والولايات المتحدة، إلى تقليص اعتماد الأولى على الغاز الروسي، وقطع الطريق أمام خطط موسكو لتوسيع شبكات أنابيبها عبر الجنوب، مثل خط أنابيب "السيْل الجنوبي". ومع ذلك، تظلّ روسيا فاعلاً رئيسياً في جزء لا يُستَهان به من أمن القوقاز، من خلال وجودها العسكري في أرمينيا، وحضورها القويّ في جورجيا، وعلاقاتها الاقتصادية مع أذربيجان ودول آسيا الوسطى.
أما إيران، فقد شهِدت تراجعاً في مَكانتها الجيوسياسية والاقتصادية، سواء بسبب التقارب الاستراتيجي بين تركيا وأذربيجان، أم تنامي علاقات باكو وتل أبيب، أم التغيّرات في الشرق الأوسط الناجمة عن حرب غزة، وتحديداً إضعاف نفوذ وكلاء إيران في الإقليم. ويُنظَر إلى مشروع مَمَر "زنغزور"، المُمتَد بين أذربيجان وأرمينيا، والذي حصلَت واشنطن على حقوق حصريّة لتنميته وفقاً لاتّفاقها مع باكو ويريفان في أغسطس الماضي، على أنه تهديد لإيران؛ حيث إنه يقطع التواصل البرّي بين إيران وأرمينيا؛ ممّا يزيد من عزلة طهران عن جنوب القوقاز؛ فضلاً عن فقدانها دورها بوصفها مَمَرّ عبور استراتيجي في هذه المنطقة. وحذّرت إيران من عواقب مُشارَكة الولايات المتحدة في إدارة مَمَر "زنغزور"؛ كونه سيَجلب واشنطن وحلف الناتو إلى منطقة القوقاز.
ختاماً، يمكن القول إن التقارب الاستراتيجي المُتَسارع بين منطقتي الشرق الأوسط وجنوب القوقاز، لم يعد مجرّد تطوّر جغرافي أو اقتصادي، بل هو عملية حيويّة تُسهِم في إعادة صياغة خريطة القوّة العالَميّة والإقليميّة. وتقود عمليات التقارب بين المنطقتين، خاصّةً من جانب دول الخليج وتركيا وأذربيجان، إلى إرساء نوع من التكامل الاقتصادي والتعاون في مجالات الطاقة، والبنية التحتيّة، وكذلك الأمن والدفاع. وربما يؤشّر هذا التقارب على بداية عصر جديد تتزايد فيه أهميّة التحالفات والشراكات العابِرة للأقاليم، والقائمة على المَصالِح المُشتَركة والرؤية الاستراتيجيّة المُوَحّدة.

2025-09-23 11:47:09 | 82 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية