مُقارَبات لمُواجَهة التفوّق الجويّ "الإسرائيلي"
في الصراع الدائر
مُنذر سليمان، جَعفر الجعفري
الميادين.نت
3/9/2025
يَستَمرّ الكيان "الإسرائيلي" في الاعتماد على سلاحه الجويّ كأداة رئيسية للاغتيالات، وهو يُشارِف عتَبة 700 يوم من حرب ضَروس وقَسوة لا مُتَناهِية ضدّ الشعب الفلسطيني في غزة، وعدوانه المُتَواصِل أيضاً على لبنان وسوريا والعراق واليمن وإيران؛ والذي استند بشدّة إلى سمعته الرّاسخة بشأن "تفوّق سلاحه الجويّ" على أيّ تشكيل أو مجموعة في الإقليم.
"التصدّع" جاء في تقرير حديث لصحيفة "معاريف" الصهيونية، 27 آب/تمّوز 2025، مفادُه أن هناك "تصدّعات خطيرة في الإمكانات الماديّة لـ "الجيش" الإسرائيلي، وسط طول أمَد العمليات العسكرية وتزايد الضغوط على الوسائل القتاليّة، من دبّابات ومدفعيّة وناقلات جنود"؛ تَلاه تقرير مُوازٍ نَشرَته صحيفة "نيويورك تايمز"، 28 آب/تمّوز 2025، بعنوان "جنود إسرائيل المُنهَكون يُعَقّدون خطط الهجوم على غزة".
لافِتٌ هذا "الاهتمام" الإعلامي المُفاجئ لأهليّة المؤسّسة العسكرية "الإسرائيلية" والتشكيك بقدراتها على مُواصَلة اعتداءاتها، امتداداً وتنفيذاً لاستراتيجيّة الهيمَنة الكونيّة للولايات المتحدة، في ظلّ مناخات إقليميّة "تزداد سخونتها"، مع اتّضاح عدم قدرة المنظومة العسكرية بمُفرَدها على حسم الصراع للمرّة الأولى، نظَرياً على الأقل، يُواكِبها إغراق الخطاب الإعلامي بتحقيق "مشروع إسرائيل الكبرى" كهَدف استراتيجي طويل الأمَد، أحد أوجهه يُتَرجِمه التمدّد الجغرافي في الإقليم على حساب دول "سايكس – بيكو".
يُستَهل تقرير "نيويورك تايمز" بالإشارة إلى "تزايد عدد جنود الاحتياط الإسرائيليين الذين يتغيّبون عن الخدمة العسكرية؛ يُشير بعضهم إلى الإرهاق" النّاجم عن خسائره البشرية العالية في غزة، وخَيبة الأمَل لدى "الاحتياط (الذين) أمضوا الآن مئات الأيام في الخدمة الفعلية، ممّا حَوّلهم إلى آباء ومُوَظّفين وطلّاب غائبين".
على الصعيد العسكري الصّرف، تَقاطَع تقريرا "معاريف" و "نيويورك تايمز" بتوصيف الحالة المُزرِية لعَديد القوّات، نَقْلاً عن “الفريق إيال زامير، رئيس الأركان الإسرائيلي، بسبب مخاوف (ه) بشأن لياقة جنود الاحتياط"؛ وانعكاسه "بتعقيد خطّة بنيامين نتنياهو "لاستدعاء 60 ألف جندي احتياطي إضافي وتمديد خدمة 20 ألفًا آخرين" من أجل السيطرة على مدينة غزة.
لكن الكيان ومؤيّديه يُرَوّجون لعمليات التدمير والاغتيالات كرواية بديلة ودعاية تُصَوّرها بـ "الانتصارات" التي حَقّقها الكيان "الإسرائيلي" في حروبه المُستَمرّة منذ نشأته.
هذه "الانتصارات" المَزعومة لن تُمَكّن الكيان من السيطرة المُستَدامة على الجغرافيا، رغم الأثَر المادي والمعنوي التكتيكي الذي يُحَقّقه بفضل "تفوّق" سلاحه الجويّ في مسرح العمليّات، وصولاً إلى إيران واليمن.
لكن التاريخ الحديث والنظرة النقديّة الفاحصة تقودنا الى الاستنتاج بأنّ هذا التفوّق ليس حَتميًا ولا مَنيعًا، استناداً إلى أحدَث التحليلات والتجارب الميدانية، إذ يُمكِن الحديث عن انتهاج عدّة استراتيجيّات وتكتيكات للتغلّب على هذا التفوّق أو تعطيل وتقليل فعاليّته، مع الأخذ في الاعتبار الدروس المُستَفادة من نجاحات، ولو محدودة، حَقّقها أيضاً مُعَسكَر المقاومة مؤخّرًا. ويُمكِن تلخيص جوانب مُواجَهة التفوّق الجويّ بالمُقارَبات الآتية:
-تبنّي استراتيجيّات وتكتيكات لمُواجَهة التفوّق الجويّ "الإسرائيلي"، أبرزها:
•الحرب غير المُتَماثِلة باستخدام طائرات مُسَيّرة رخيصة، صواريخ محليّة الصنع، شبَكات أنفاق، وامتلاك أسلحة غير تقليدية.
•مَثّل هجوم 7 أكتوبر 2023 باستخدام المظلّات الشراعيّة والمُسَيّرات لتَخَطّي التحصينات العسكرية، نَصراً حَقّق مُفاجَأة تكتيكيّة تجاوزت التفوّق التقني المُعادي.
•تطوير أنظمة الدفاع الجويّ ونَشر منظومات مُتَطوّرة )مثل S-300، S-400 ، بطّاريّات محليّة(، وتكاملها في منظومة مُتَعَدّدة الطبقات، لحِرمان سلاح الجوّ المُعادي من السيطرة الجويّة الكاملة وحماية المجال الجوّي. كما شهِدنا بنجاح الدفاعات الجويّة المصرية والسورية في إسقاط 300 طائرة إسرائيلية في حرب 1973.
•تطوير نُظُم التشويش الإلكتروني لاستهداف أنظمة الاتصال والملاحة "الإسرائيلية"، وتعطيل عمل الطائرات المُسَيّرة من دون طيّار وأنظمة التوجيه، كما شهدنا استخدام المقاومة الفلسطينية أجهزة تشويش على أنظمة المُراقَبة الإسرائيلية أثناء هجوم 7 أكتوبر 2023.
•الهجمات الصاروخيّة المُتواصِلة بإطلاق وابل من الصواريخ بكميّات كبيرة، وبشكلٍ مُتَزامِن، لاستنزاف دفاعات الخصم وإجباره على إنفاق مَوارد باهظة على الدفاع، وإرباك أنظمة الاعتراض "الإسرائيلية" (مثل القبّة الحديديّة).
أثبت إطلاق المقاومة نحو 5000 صاروخ خلال الساعات الأولى في هجوم 7 أكتوبر 2023، قدرتها العملياتيّة على تشتيت أنظمة الدفاع "الإسرائيلي".
•استخدام التمويه والخداع ببناء شبكات أنفاق تحت الأرض لإخفاء المُقاوِمين ومُستَودَعات الأسلحة، ونشر دُمى وأهداف وهميّة في الأماكن المأهولة، لتضليل الاستخبارات "الإسرائيلية" وحماية القوّات والأصول الحقيقيّة.
•نسج تحالفات إقليمية مَتينة، وتعزيز التعاون العسكري والاستخباراتي بين الدول العربية والإسلامية، وتَبَنّي استراتيجيّة دفاعيّة مُوَحّدة، تستطيع مُوازَنة القوّة "الإسرائيلية" بقوّة جماعيّة ذات مَوارِد وتكنولوجيا مُتَفَوّقة.
•بروز احتمال قيام إيران بشراء مقاتلات مُتَطوّرة من الصين، مثل ،J-10C لتعزيز قدراتها الجويّة.
•تشجيع مُبادَرات الابتكار التقني المحلّي لتطوير صناعة محليّة للطائرات المُسَيّرة، الصواريخ، وأنظمة التشويش الإلكتروني، وبناء قدرات ذاتيّة مُستَدامة ومُتَطَوّرة، والتركيز على استهداف أنظمة التزوّد بالوقود جواً، القواعد الجويّة، مراكز القيادة والسيطرة، ومواقع الرادار .
•استهداف نقاط ضعف الخصم، كما شهِدنا في مجال تطوير حركة حماس لطائراتها المُسَيّرة محليًا واستخدامها بشكل فَعّال ضدّ دبّابات الميركافا، ما أدّى إلى شلّ قدرة العدو وتعطيل سلاح الجوّ في مصادره.
-الحرب النفسية والإعلامية: استخدام مُكَثّف لوسائل الإعلام لنَشر الروح المعنويّة العالية وإبراز النجاحات الميدانيّة، ممّا يؤثّر على معنويات الجيش والإعلام الإسرائيلي، تُثمر في كسب التعاطف الدولي وتقوية الروح المعنويّة للقوّات والشعوب المحليّة. برزَت فعّالية هذا السلاح في تصريحات قادة حزب الله، في المراحل الأولى من حرب الإسناد لغزة، حول تقليص التفوّق الجويّ الإسرائيلي فوق لبنان، وتأثير ذلك على الروح المعنويّة.
-الاستخبارات والمعلومات: بناء شبَكات استخباراتية قويّة لجَمع معلومات دقيقة عن تحرّكات واستراتيجيات العدو وتفادي المُفاجآت الاستراتيجيّة. إنّ نجاح "إسرائيل" في ضرب المفاعل النووي العراقي، 1981، استنَد إلى معلومات استخباراتية دقيقة.
-تَعَلّم الدروس من النماذج الناجحة: أظهَر هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023 أنّ "مَبدأ المُفاجأة" والتخطيط الدقيق يُمكِن أن يتغلّبا على أحد أكثر الجيوش تطوّرًا في العالَم. لقد نجح استخدام الأدوات "البدائيّة" نسبيًا (مثل المظلّات الشراعيّة والمُسَيّرات البسيطة) في خرق منظومة دفاع مُتَطَوّرة ومُعَقّدة. كما أثبتَت الحرب في أوكرانيا فعّاليّة استخدام المُسَيّرات الرخيصة ضدّ أهداف عسكرية باهظة الثمن؛ وهو نموذج يُمكِن الاستفادة منه لاستنزاف القدرات الإسرائيلية.
-استغلال نقاط الضعف في المنظومة الدفاعية "الإسرائيلية": على الرّغم من تطوّرها التقني، فإنّ أنظمة الدفاع الإسرائيلية (مثل "القبّة الحديديّة" و"مقلاع داود" و"سهم") تَمَيّزت بكلفتها المُرتَفعة للغاية؛ وهي غير مُصَمَّمة لمُواجَهة هجَمات أعداد كبيرة من الصواريخ والمُسَيّرات الكثيفة والمُتَزامِنة، ممّا أدّى إلى استنزاف هذه الأنظمة ماليًا وعملياتيًا. كما أنّ هذه الأنظمة تُعاني من صعوبة الرّصد والتعامل مع الأهداف مُنخَفِضَة الارتفاع وصغيرة الحجم مثل الطائرات المُسَيّرة، خاصّة في ظروف جويّة صعبة.
-أهمية تحقيق التكامل والاكتفاء الذاتي: لا يُمكِن الاعتماد فقط على الاستيراد، بل تطوير قاعدة صناعية عسكرية محليّة للصواريخ والمُسَيّرات وأنظمة الحرب الإلكترونية (كما تفعله حماس وحزب الله وإيران بدرَجات مُتَفاوتة)، لضمان استمراريّة المقاومة واستقلاليّة قرارها.
-إنشاء تحالفات إقليمية مَتينة، من شأنها حماية مشروع المقاومة والمُواجَهة، إذ يُشَكّل احتمال امتلاك إيران، مثلاً، مُقاتِلات متطوّرة مثل J-10C الصينيّة، قد يُغَيّر جذريًا من موازين القوى الجويّة في المنطقة، ويشكّل تهديدًا حقيقيًا للتفوّق الجويّ "الإسرائيلي".
- تبنّي استراتيجية الحرب طويلة الأمَد: "إسرائيل" كيان صغير نسبيًا رغم ضخامة مَواردها البشرية والمالية، لكنّها ليست لامُتَناهية.
-تطبيق استراتيجيّة الاستنزاف عبر هجَمات مُتواصِلة ومُنخَفضة التكلفة، يُمكِن أن تُرهِق الاقتصاد والمجتمع "الإسرائيليين" على المدى الطويل. كما أن تقييد الحركة الجويّة الإسرائيلية فوق دول الجوار (كما سعى حزب الله تحقيقه في لبنان) يُعَطّل واحدة من أهم أدواتها الاستخباراتية والعسكرية، ويَفرض عليها تكاليف باهظة للتعويض عن هذه الخسارة.
إنّ التفوق الجويّ "الإسرائيلي"، رغم قوّته، ليس قدَرًا محتومًا. لقد أثبتَت التطوّرات الأخيرة أنه يُمكِن اختراقه والتغلّب عليه من خلال اعتماد مزيج من الإرادة القتاليّة والتخطيط الاستراتيجي الذكي، والحرب غير المتماثلة، والابتكار التقني.
الفَيْصل يَكمن في عدم خوض المعركة في ساحة تمتلك فيها "إسرائيل" تفوّقًا مُطلقًا، بل إجبارها على خوض معارك في ساحات جديدة وغير متوقّعة تستنزف قوّتها وتكشف نقاط ضعفها. النجاح لا يكمن في تقليد نموذج "إسرائيل"، بل في ابتكار نموذج جديد للصراع يتلاءم مع الإمكانيات المُتاحة ويُحَوّل نقاط الضعف إلى قوّة.
2025-09-23 11:44:50 | 56 قراءة