التصنيفات » مقالات سياسية

الخطاب الإعلامي الإسرائيلي والصراع في ميدان اللغة
الخطاب الإعلامي الإسرائيلي والصراع في ميدان اللغة
 
إنّ للّغة، حسب الباحث، دور جوهري. وعليه، فإن استخدامها المَدروس والمُوَجّه هو أمرٌ مركزي، خاصّة في إعلامٍ يُعالِج واحدًا من أبرز الصراعات السياسية، وأطوَلها وأكثرها دمويّةً...
سليمان أبو ارشيد
1/9/2025
 
في دراسة بعنوان "إنتاج الدِلالة المُوَجّهة في لغة الإعلام الإسرائيلي"، يُشير الباحث ماهر داوود إلى الدور المركزي الذي يؤدّيه الصراع اللغوي في الصراع الفلسطيني-الصهيوني، حيث يبرز أساسًا في مسألة الرواية التاريخية للصراع، إذ جرى، كما يقول، استحضار اللغة لتأكيد كلّ طرَف حقّه على الأرض وفيها، وبدأ الصراع اللغوي بشأن تسمية البلد. فالحركة الصهيونية استحضَرت اسمًا دينيًا "أرض إسرائيل"، بدَلاً من تسمية فلسطين التي استخدَمها الفلسطينيون، وحتى حكومة الانتداب التي كانت تُسَمّى "حكومة عموم فلسطين".
ويُضيف الباحث بأن تسمية الأرض بـ"أرض إسرائيل" هي أساس تُبنى عليه وتَستجيب إليه بقيّة المَفاهيم الاقتصادية والسياسية والأمنيّة بالمنظور الصهيوني. ومن هنا، فإن الخطاب الأمني هو الثابت في كيان يعيش هاجس التهديد الوجودي؛ أمّا الخطاب الليبرالي التعدّدي الذي تَبلوَر لاحقًا، فإنه مُتَحَوّل، ولا يلبث أن يُزاح جانبًا لصالح الإجماع القومي الزاحف بخطى واثقة نحو اليمين.
ويَجري الانتقاء والإقصاء في توظيف اللغة على قاعدة الرؤية الأمنية السياسية لإدارة شعب تحت الاحتلال، كما يقول، مُشيرًا إلى تَمَثّل دلائل هذه السياسة في تلك اللافتات التي يراها المارّة وهم في طريقهم إلى مناطق السلطة الفلسطينية (مناطق أ)، قادِمين من المُدُن الواقعة تحت سيطرة إسرائيلية كاملة مثل القدس، حيث نصَبت الإدارة المدنيّة لافتات ضخمة باللون الأحمر، تُحَذّر المُواطِن الإسرائيلي من الدخول إلى مناطق السلطة، لأنه بذلك يُعَرّض حياته للخطَر، ويرتكب مُخالَفة جنائيّة يُعاقِب عليها القانون.
واللغة ليست أبدًا مُحايِدة، حتى عندما نُحاوِل أن نستخدم كلمات تبدو ظاهريًا "نظيفة" لوَصف الواقع، لأن الواقع الاجتماعي الذي تُمَثّله هو دائمًا واقع مشحون بتَعارُض المصالح والصراعات وقرارات الحسم والسيطرة. وفي كلّ هذه الأمور، فإنّ للّغة، حسب الباحث، دور جوهري؛ وعليه، فإن استخدامها المَدروس والمُوَجّه هو أمرٌ مركزي، خصوصا في إعلامٍ يُعالِج واحدًا من أبرز الصراعات السياسية، وأطوَلها وأكثرها دمويّة.
وعلى سبيل المثال: فإنّ الحواجز العسكرية التي تقطع أوصال المدن الفلسطينية، وتهدر وقت السكّان وطاقاتهم، وتُعَرّض حياتهم للخطَر، تُسَمّى في القاموس العِبري "مَعابِر". وهذه "المَعابِر" تحمل في ثنايا اسمها معنى العبور والتسهيل، الذي هو ضدّ المَنع والتضييق؛ وفي الوقت ذاته، لا تحمل تسمية "معبَر" ذلك العنف وتلك الهيمنة التي توحي بها كلمة "حاجز". فكلمة "حاجز" تُناسِب واقع الحال وتُعَبّر عنه بصدق.
وبهذا الصّدد، حاوَر "عرب 48" الباحث ماهر داوود لإلقاء المزيد من الضوء على الموضوع.
"عرب 48": لا نحتاج إلى الكثير من الجهد لكي نُدرك أن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي هو خطاب مُوَجّه ومُضَلّل، يتعمّد إخفاء الحقائق وتحويرها بحيث تخدم السياسة الاستعمارية الاستيطانية التي تُمارِسها إسرائيل. وهو يستخدم لهذا الغرض قاموسًا لغويًا كاملًا من المُفرَدات والتّعابير الخاصّة به، ويُراد لها أن تحلّ محلّ التّعابير والمُفرَدات التي تعكس الحقائق الموضوعية وتُعَبّر عنها. لكن، بدون شك، فإن بحث هذا الموضوع أكاديميًا من شأنه أن يُضيء على الكثير من جوانبه اللغوية والسياسية، وهو ما لمَسناه في دراستك؟
داوود: في دراستي، بَحَثتُ في لغة الخطاب الإعلامي الإسرائيلي، والفرْق بين اللغة الموضوعية المهنيّة المُحايِدة، وبين اللغة المُوَجّهة المُحَمّلة بالدلالات والإيديولوجيا. وحاولتُ استبيان الخط الفاصل الذي يمرّ بين اللغة الموضوعية المُحايِدة، واللغة التي تُرَكّز على موروث ثقافي عقائدي فكري سياسي، والتي هي، في الحالة الإسرائيلية، لغة غير بريئة ومُوَجّهة، وتخدم أهدافًا غير نظيفة وغير شرعية في غالبيّة الأحيان.
وقد بدأتُ بإطار نظري يتحدّث عن الدلالة المُوَجّهة والمعنى، ورأيتُ أن هناك حاجة لإلقاء نظرة على عِلم اللغة التقابلي، الذي يبحث اللهجات المُتَنَوّعة داخل اللغة الواحدة، والتقابل بين لغة وأخرى، ويختصّ غالبًا بالبدائل اللغويّة التي نستخدمها، وفي ما إذا كانت تنحصر في قاموس اللغة المُتَوَفّر أمام المُستَخدِم، أم أنه يقع تحت تأثير خيارات ومواقف سياسية وإيديولوجية معيّنة. وقد برَز أمامي الواقع السياسي الميداني الذي نعيشه، بين "الحاجز" و"الجدار"، واختلاف هذه التعابير في لغة الخطاب الإسرائيلي، عنها في اللغة العربية الفلسطينية وفي الواقع الفعلي.
فهناك فرق كبير في المعنى بين "المعبَر"، وهو التعبير المُستخدَم في لغة الخطاب الإسرائيلي، وبين "الحاجز" القائم فعلاً على الأرض. فـ"المعبَر" يُرادُ منه تسهيل التواصل الجغرافي والسياسي بين الناس، فيما يُرادُ للحاجز أن يمنع ويعيق هذا التواصل. وغَنِيٌ عن البيان أن الخطاب الإسرائيلي يَستخدم كلمة "معبَر" في تعريف الحواجز الرئيسية التي تقطع أوصال الضفة الغربية، مثل "معبَر قلنديا"، و"معبَر بيتونيا" وغيرهما.
"عرب 48": هو تضليل لغوي يُرادُ منه تحوير المعنى، وتلطيف الواقع السيّئ، وتخفيف وقعه على الأذن الفلسطينية والإسرائيلية والأجنبية؟
داوود: القضية تبدو وكأنّك تتحدّث عن ميدان آخر من ميادين الصراع يُضافُ إلى الميدان السياسي والدبلوماسي والعسكري، هو ميدان اللغة. وفي هذا الباب، نرى أن الخطاب الإعلامي الإسرائيلي هو مُوَجّه ودقيق، ويهدف إلى التدخّل في وعي الناس المُتَلَقّين تجاه الحدَث. فمثلًا، عندما يتحدّث عن عملية اغتيال فلسطيني حاوَل تنفيذ هجوم، يتم استعمال كلمة "تحييد" المُنَفّذ، وهو تعبير يُرادُ منه عدم تكليف المُتَلَقّي عناء السؤال: ماذا حدَث؟ من هو المُنَفّذ؟ ولماذا فعَل ذلك؟ وغيرها من الأسئلة التي تخصّ الشق الفلسطيني من الحدَث، لأن كلّ ما جرى لا يتعدّى أن يكون عملية "تحييد"!
"عرب 48": معنى يعكس تفكيرًا باتجاه واحد، ولا يُقيم اعتبارًا للفلسطيني وحياته؟
داوود: صحيح. كذلك تُصبح القضية ليست الحدَث نفسه، بل قضية لغة. أي أنّ الألفاظ تُستخدَم لوَصف الحدَث، فيما الحدَث نفسه يُصبح هامشيًا مُقارَنةً مع اللغة. بمعنى أن عملية "تحييد" هي عامل لفظي وتحايل لغوي على شيء مُعَيّن حصَل.
"عرب 48": والاغتيال الذي يجري عادة بواسطة مُسَيّرات أو مروحيّات، يُطلِقون عليه "إحباطاً مُرَكّزاً"، وهو يعطي نفس المعنى؛ أي إحباط ومنع الخطَر القادم على الإسرائيلي، من دون الإشارة إلى الفلسطيني واعتباره طرَفًا في صراع؟
داوود: أنا أرى في هذا المجال أنه عندما يكون الحدَث مؤلمًا من ناحية ضميرية، أخلاقية وإنسانية، يُحاوِلون حلّ الأمور بطريقة لغويّة؛ حيث يتم تجميل الموضوع من ناحية لغويّة، فيما يبقى الحدَث ما هو عليه.
يُشارُ في هذا السياق إلى "جدار الفصل العنصري" الذي أُقيم عام 2004، وأثار ضجّة كبيرة بسبب مساحات الأرض التي يُصادِرها من الفلسطينيين، وما يُحدِثه من تقطيع أوصال تجمّعات وقُرى، وحتى عائلات فلسطينية. فقد اكتفوا بداية بتسمية "جدار الفصل"، ثم أسقطوا "الفصل" ليُصبح "جدار"؛ وفي حالات معيّنة أسموه "سياج"، وكأنّه مجرّد "حاجز" يفصل بين جارَين، في حين أن ما هو قائم على أرض الواقع هو جدار إسمنتي مُسَلّح، ومُعَزّز بالكاميرات والمجسّات الكهربائية؛ ومن يقترب منه قد يُواجِه خطَر الموت.
"عرب 48": الهدف هو تخفيف وقع الحدَث أو الجريمة على المُتَلقّين في العالَم، وحتى بين الإسرائيليين والفلسطينيين أيضًا؟
داوود: إضافة لما قُلت، هناك تحايل باستخدام اللغة، ومُحاوَلة تطبيع الواقع من خلالها ومن خلال المُفرَدات. وقد لفَت انتباهي بهذا الخصوص بحث ليوناتان مندل، تُرجِم ونُشِر في مجلّة "قضايا إسرائيلية"، أشار فيه إلى الامتناع عن ترجمة تعابير مثل "انتفاضة" و"شهيد" وغيرهما، لكي لا تترك مَعانيها أثَرًا في نفوس المُتَلَقّين.
"عرب 48": كلمة "انتفاضة" دخلَت كلّ قواميس اللغات العالَميّة، ومنها العِبريّة. لكن ربما التسامح باستخدامها في اللغة العِبريّة يكون نابعًا من تفادي المعنى الإيجابي الذي ستُعطيه ترجمتها العِبريّة، التي تحمل مخزونًا وجدانيًا في الموروث العالَمي واليهودي كذلك؟
داوود: الإعلام العِبري لا يسمح لنفسه بإعطاء شرَف المعنى المذكور للشعب الفلسطيني. فترَك الكلمة العربية تدخل قاموسه من أوسع الأبواب، بعد أن أغدَق عليها مفهومًا سلبيًا، فأصبحت في عُرفِه تضم كلّ ما يُسَمّونه بأعمال شغب وفوضى وإخلال بالنظام العام. وأصبحت تُطلَق على كلّ احتجاجات سلبيّة، مثل احتجاجات الحريديين.
"عرب 48": هذا عِلمًا أن تعبير "انتفاضة" اكتسب مفهومًا إيجابيًا عالَميًا، وأصبح نموذجًا يُحتَذى؟
داوود: صحيح. ولكنّهم في الخطاب الإعلامي باللغة العِبريّة أفرغوها من مضمونها، وأسبَغوا عليها مفهومًا سلبيًا. وما كانوا ليَستطيعوا فعل ذلك لو أُخذَت معناها العِبري (هتكوميموت). كذلك فعلوا مع تعبير "شهيد"، حيث باتوا إذا أرادوا التحريض على أحد النوّاب العرب، يتّهمونه بأنه مؤيّد للشهداء ("توميخ شهيديم")، ويلفظونها بلكنة شماتة، إمعانًا في إفراغها من مَعاني التضحية والفداء. عِلمًا أن هذه المَعاني موجودة في الثقافة العِبريّة الإسرائيلية "تقديس الرب" ("كيدوش هشِم")، وأن يُضَحّي الإنسان بنفسه من أجل أهداف سامية.
"عرب 48": التضحية بالنفس من أجل هدف سامٍ ليست قَصْرًا على الدين والثقافة الإسلاميين، بل هي موجودة في كلّ الديانات. وفي هذا السياق، يَعتَبر الكثيرون منّا المسيح عليه السلام أوّل شهيد فلسطيني؟
داوود: عدم ترجمة كلمة "شهيد" لسبب أنها أُريد لها أن تبقى محصورة في إنسان بالمفهوم السلبي الذي أُسبِغ عليها. ولذلك تجاهلوا أن الثقافة الإسلامية تعتبر من يَقضي وهو ذاهب إلى العمل أو خلال عمله شهيدًا؛ وكذلك المرأة التي تقضي خلال الحَمل أو الولادة شهيدة، وليس فقط من يموت دفاعًا عن وطن وقضية.
"عرب 48": هذا الخطاب برَز بفجاجة خلال حرب الإبادة على غزة، واكتسب مَلامِح أكثر فظاظة؟
داوود: في واقع الحرب على غزة، أعتَقد أن العبارات والألفاظ المُستَخدمة كلّها تتكرّر. وفي الحديث عن العملية الإسرائيلية على غزة، ومُصادَقة الجيش الإسرائيلي على الخطّة التي يتحدّثون عنها في الأيام الأخيرة، لفتَت نظَري عبارة "إزالة التهديد"؛ وهي عودة لاستخدام كلمة مهنيّة بحتة، بكلّ ما تعنيه من تغاضٍ عن الأثمان التي تُدفَع في هذه العملية العسكرية من قتل وتدمير وتهجير مُتَكَرّر، وما تحصده من ضحايا بين النساء والأطفال والرجال.
إنها عبارة توحي للإسرائيلي الذي يجلس ويشرب القهوة في تل أبيب، أن جيشه يقوم بعملية نظيفة، مهنيّة وأخلاقيّة، تنحصر في "إزالة التهديد" لا أكثر ولا أقل.
"عرب 48": من جهة ثانية، نحن نعرف، وفقًا لاستطلاعات الرأي، أن الإسرائيلي ليس لديه مشكلة في ما إذا كانت العملية أخلاقيّة أو غير أخلاقيّة، لأنه لا يعترف بوجود أبرياء في غزة؟
داوود: صحيح؛ خاصّة أن الحرب على غزة أزاحَت جانبًا الكثير من القضايا الداخلية المتعلّقة بالإصلاحات القضائية والمُشكِلات الاجتماعية، لصالح التوحّد خلْف الخطاب الأمني الصهيوني، الذي يرى الأحداث من منظار أمني عسكري، ولوْثة الخطَر الوجودي، الذي يتغذّى من عقدة المُطارَدة وتحفيز ذاكرة الهولوكوست.
• ماهر داوود: باحث في الشؤون الإسرائيلية، كاتب وناقد مهتم باللغة العربية.

2025-09-22 12:02:43 | 54 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية