التصنيفات » مقالات سياسية

كيف حَوّلَت الصين البحر الأحمر إلى فخّ استراتيجي للولايات المتحدة؟

كيف حَوّلَت الصين البحر الأحمر إلى فخّ استراتيجي للولايات المتحدة؟

مركز أبعاد للدراسات الاستراتيجيّة 
 2025-05-08
المصدر: المجلس الأطلسي  
ترجمة: عبدالحميد فحام  

 نصّ الترجمة  
ظهَرت في وسائل الإعلام الصينية مؤخّراً عبارات تُمَجّد الحوثيّين، مثل: "تحيّة للحوثيّين!"، بالتزامن مع تَعَرُّض السفن التجارية الغربية لسلسلة من الهجَمات بالطائرات المُسَيَّرة والصواريخ في البحر الأحمر، بحجّة أن تلك السفن كانت في طريقها إلى "إسرائيل". وفي الوقت ذاته، تُواصِل السفن التي تحمل علامة "سفينة وطاقم صيني" عبورها الآمن نسبياً من هذه المنطقة المُتَوَتّرة، وكأنها تمرّ عَبْر مياه مُحايِدة؛ ولا يُعتَبر هذا الامتياز مجرّد مُصادَفة، بل نتاج تفاهمات دبلوماسية دقيقة ومُخَطَّط لها بعِناية.  
أظهرت بيانات تتبُّع السفن -إلى جانب تصريحات عَلنيّة من قيادات حوثيّة- أن السفن الصينية تحظى بمُعامَلة تفضيلية في منطقة أصبحت مَسرحاً لمُواجَهة مُحتَدمة مع المصالح الأمريكية. وتُشير العقوبات الأمريكية الأخيرة إلى أن قيادات بارزة في الحركة الحوثيّة، مثل محمّد علي الحوثي، نَسّقت بشكل مُباشر مع مسؤولين صينيين لضمان عدم استهداف السفن الصينية. هذه التفاهمات تمّ تأكيدها في لقاءات دبلوماسية جرَت في سَلطَنة عُمان، وأسفَرت عن ضمانات علنيّة لعبور آمِن، حتى في ظلّ تَصاعُد الهجَمات ضدّ السفن الأمريكية والغربية الأخرى.  
ورغم أن الحوثيين يزعمون أنهم يُمَيّزون بين السفن الغربية ونظيراتها من السفن الصينية، إلّا أن أنظمتهم الصاروخية التي تقوم باستهداف السفن لا تزال بدائيّة ومُعَرَّضة للأخطاء. وقد تمّ تسجيل حوادث عَرَضِيّة تعرّضت فيها سفن صينية لهجَمات خاطئة، خاصّة في مَمَرّ باب المندب الضيّق؛ غير أن هذه الأنظمة شهدت تحسُّناً ملحوظاً بفضل الدعم التكنولوجي الصيني، الذي عَزّزَ دقّة الهجَمات وحَدّ من هذه الأخطاء.  
الحسابات الصينيّة: التفوّق الاقتصادي عَبْر الحروب بالوكالة  
تُدرِك بكين أن معركتها الكبرى ليست عسكرية بل اقتصادية، وتُخاض من خلال وكلاء، مثل إيران والحوثيين؛ إذ إن سيطرة غير مُباشرة على المَمَرّات البحرية الحيوية، مثل البحر الأحمر، تُتيح لها تحقيق مكاسب استراتيجية تفوق ما تُحَقّقه من اتفاقيّات تجارية تقليدية. وقد عكَست وكالة أنباء شينخوا Xinhua الرسمية هذا التوجّه، بوَصفِها للأزمة بأنها "تُعَرّي عجز الولايات المتحدة أمام خصوم غير تقليديين مثل الحوثيين"، واعتبارها أن التدخّل العسكري الأمريكي "زادَ من المقاومة، وكشَف تراجُع النفوذ الاقتصادي الأمريكي وتفكُّك منظومته التحالفية".  
ورغم أن حركة الملاحة في البحر الأحمر تراجعت بنسبة تُقارِب 70% منذ بَدْء الهجمات، إلّا أن الشحن المُرتَبِط بالصين ارتفع بشكل ملحوظ، في دلالة صامتة على فاعليّة هذا الترتيب غير المُعلَن. وفي المُقابِل، اضطرّت شركات الشحن الأوروبية الكبرى إلى تغيير مَساراتها عَبْر رأس الرجاء الصالح، ما منَح البضائع الصينية ميزة تنافسيّة مُصطَنعة، حيث باتت تصل أسرع، وبكلفة أقل، فيما يُعاني المُصَنّعون الأوروبيون من اضطرابات في سلاسل التوريد وخسارة في الحصص السوقيّة لصالح مُنافِسيهم الصينيين.  
دعم صيني تقني ولوجستي: من الأقمار الصناعية إلى المُكَوّنات الإلكترونية  
لم تَقتصر مُساهمة الصين على التفاهمات الدبلوماسية، بل امتدّت لتشمل دعماً تقنياً وعسكرياً غير مُباشر. فقد أدرَجت الولايات المتحدة مؤخّراً شركة "تشانغ غوانغ لتكنولوجيا الأقمار الصناعية" Chang Guang Satellite Technology Co. Ltd. (CGSTL) ضِمن قائمة العقوبات، بتهمة تزويد الحوثيّين بصُوَر فضائية دقيقة، مَكَّنتهم من استهداف قطع بحرية أمريكية في البحر الأحمر. وهذه الشركة ليست كياناً عادياً، بل تَتبَع الأكاديمية الصينية للعلوم، وتتمتّع بدعم حكومي إقليمي، وتُجَسّد سياسة "الدمج العسكري-المدني" التي تعتمدها الصين، ما يجعلها أداة استخباراتيّة بغطاء مدني.  
وتؤكد تقارير متعدّدة وجود مُكَوّنات صينية في الطائرات المُسَيَّرة الحوثية، منها خلايا وقود هيدروجينية طُوّرَت في الصين، ساعدت في زيادة مدى الطيران وتقليل الانكشاف الراداري. كما تمّ ضبط 800 مروحة لطائرات مُسَيَّرة تحمل علامات صينية عند الحدود العُمانيّة؛ وهي نفسها التي عُثِرَ عليها في مُسَيَّرات استخدمها الحوثيّون وميليشيات مُوالِية لإيران في العراق، وكذلك في أوكرانيا.  
إيران تكسب النفوذ، والصين تكسب الوصول  
يسمح دعم الصين لإيران لبكين بتحقيق أهدافها الاستراتيجيّة دون أن تنخرط بشكل مُباشر أو تتحمّل مسؤولية واضحة. ففي كانون الثاني/ يناير 2025، نقلَت سفينتان إيرانيتان أكثر من ألف طن من مادّة بيركلورات الصوديوم من الصين إلى ميناء بندر عباس الإيراني، وهي مادّة أساسيّة في صناعة وقود الصواريخ الصّلب؛ وهي كميّة كافية لتصنيع ما يُقارِب 260 صاروخاً مُتَوَسّط المدى. ورغم أن الصين تَمُدّ إيران بتكنولوجيا الصواريخ منذ عقود، فإن حجم وعلنيّة هذه الشحنات يُشير إلى تَوَسُّع استراتيجي في الشراكة، على الرّغم من نفي الصين الرسمي لأيّ تَوَرُّط مُباشر.  
وتنعكس تداعيات هذا التعاون على كامل المنطقة. فمع تنامي برنامج إيران الصاروخي، تتعزّز قدرتها على تسليح ودعم الميليشيات الحليفة لها، مثل الحوثيين في اليمن. فهذه الجماعات لا تحتاج إلى صواريخ بعيدة المدى، بل إلى طائرات مُسَيَّرة مُطَوَّرة، وأنظمة توجيه أكثر دقّة، وسلاسل إمداد مُستَقرّة؛ وهي جميعها مجالات شهِدت تحسّناً ملحوظاً مؤخّراً. ولا يَلزَم الصين أن تُسَلّح الحوثيين مُباشرة؛ إذ يكفيها أن تدعم إيران لتُنشئ بذلك شبكة إقليمية تخدم مصالحها بهدوء، بينما تُبقي الولايات المتحدة غارقة في صراعات مُكلِفة وضعيفة المَردود.  
وقد برَز هذا التنسيق الصامت بين بكين وطهران بشكل أكثر وضوحاً في 26 نيسان/ إبريل 2025، حين وقَع انفجار ضخم في ميناء بندر عباس. وبينما أنكَرت السلطات الإيرانية أنها استورَدت وقوداً للصواريخ، أكّدت شركة الأمن الخاصّة "أمبري" Ambrey أن الميناء استقبَل بالفعل هذه المَواد الكيميائية من الصين في آذار/ مارس. وبالتزامن مع فَرْض العقوبات الأمريكية على شركات الأقمار الصناعية الصينية، استهدَفت واشنطن أيضاً الشركات المُرتَبطة بالسفينة "تينوس 1" Tinos I التي ترفع علَم بنما، وكانت تنقل النفط الإيراني سراً إلى الصين. وقد تَمّت هذه العملية بدعم مُباشر من الحرس الثوري الإيراني، ما يخلق مساراً مُزدَوجاً: تحصل إيران على الأموال مُقابِل نفطها، وتحصل الصين في المُقابِل على الوقود والنفوذ. 

 


الغموض الاستراتيجي والرواية المُزدَوجة  
أحكَمت بكين لعبتها المُزدَوجة في البحر الأحمر؛ فهي لم تُدِنْ هجَمات الحوثيين صراحة في البداية، بل دعَت "جميع الأطراف المعنيّة" إلى "القيام بدور بَنّاء لتحقيق الاستقرار". وبعد ضغط دولي مُتزايد، اعترفت الصين في الأمم المتحدة بوجود تهديد على حركة التجارة، بينما ظلّت سفنها تمرّ بسلام عَبْر المَمَرّ ذاته.  
وامتدّ هذا الغموض إلى وسائل الإعلام الصينية، حيث احتفى المُستَخدَمون علَناً بالهجمات الحوثية على المصالح الغربية، مع تعليقات تدعو لتفجير السفن الأمريكية والبريطانية، في مشهد يُعيد للأذهان الاحتفالات الإلكترونية بالدور الروسي في أوكرانيا والدعم لحماس في غزّة.  
ترغب بكين في إبقاء الحوثيين نشِطين، لا مُنتَصرين ولا مُنهارين. فحالة عدم الاستقرار المُتواصِلة تُرهِق الأسطول الأمريكي، وتُربِك التجارة العالمية، وتمنح الصين فرصة لتمرير سفنها في مَمَرّ آمِن نسبياً، بينما ينزف الخصم الغربي في معركة استنزاف غير مُباشرة.  
محور "موسكو– بكين– طهران": تنسيق مُتَصاعد 
يَتعمّق التحالف الثلاثي بين إيران وروسيا والصين باستمرار. فقد سبقَت جولات التفاوض الأمريكية في نيسان/ إبريل 2025 زيارات استراتيجية لوزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى موسكو وبكين، أسفَرت عن تنسيق دبلوماسي مُكَثّف. وأنتَجت قمّتهم الثلاثيّة في بكين موقفاً مُوَحّداً ضدّ الضغوط الغربية، واقتراحات صينية لبدائل سياسية تُقَوّض الطّرح الأمريكي.  
كما أن روسيا، بحسب مُراقبين، قد تُصبِح حاضنة لليورانيوم الإيراني عالي التخصيب في صفقات مستقبلية، مما يُوَفّر غطاءً تقنياً لبرنامج طهران النووي، في حين تُواصِل الشركات الصينية تزويد إيران بالمُكَوّنات الحيويّة التي تستخدمها بدورها لدعم الحوثيين. ومن اللافت أن قطع الطائرات المُسَيَّرة نفسها التي عُثِرَ عليها في اليمن ظهَرت في أوكرانيا، في دليل على اتّباع النموذج الحربي ذاته عَبْر الوكلاء.  
وقد تُوّج هذا التحالف بتوقيع بوتين اتفاقية شراكة استراتيجيّة لمدّة عشرين عاماً مع إيران، في نيسان/ إبريل 2025. في هذا الترتيب، تُوَفّر الصين التكنولوجيا، وتُدير إيران شبكة الوكلاء، وتُوَفّر روسيا الدعم السياسي والدبلوماسي، في نظام مُعَقَّد يُعيد تشكيل موازين القُوى دون الحاجة إلى مُواجَهة مُباشرة.
 
التجارة أوّلًا... والنفوذ لاحقاً  
ما تفعله الصين في البحر الأحمر ليس مجرّد توظيف ظَرفي لصراع قائم، بل هو تجسيد لدبلوماسية مُحَنَّكة واستراتيجيّة طويلة الأمَد. فالحوثيون اليوم يعتمدون على تكنولوجيا لم يكونوا ليُطَوّروها بأنفسهم، ويَشنّون هجَماتهم بتوجيه إلكتروني قائم على معدّات صينيّة.  
قد تفرض واشنطن عقوبات على شركات بِعَيْنها، لكنّها ستظلّ مُتَأخّرة طالما لم تُواجِه جوهر المُعادَلة الثلاثيّة القائمة بين الصين وإيران ووكلائهما في المنطقة. وإذا كانت الولايات المتحدة تُريد فعلاً الفوز في المُنافَسة الاقتصادية مع الصين، فعليها أن تتوقّف عن التركيز على الرسوم الجمركية، وتبدأ في استعادة حضورها الميداني في مناطق استراتيجيّة كالبحر الأحمر، حيث تُحَدّد السيطرة الجغرافية مُستَقبل الأسواق، لا الاتفاقيات الورَقيّة.  
كما أن إشراك الشعب اليمني نفسه في عملية السلام بات ضرورة؛ فاليمنيّون بعد سنوات من الحرب والإقصاء، باتوا يرفضون أن يُستخدَم بلدهم ساحة لتصفية الحسابات الدوليّة دون اعتبار لمصيرهم أو مَطالبهم المشروعة.  
في نهاية المطاف، لم تَعُد اليمن مجرّد أزمة هامشيّة، بل أصبحت مسرحاً حيّاً يُظهِر كيف تُحَوّل الصين الوصول التجاري إلى نفوذ استراتيجي، وتُحَرّك خيوط الصراع من بعيد، دون تَحَمُّل أيّ مسؤولية مُباشرة، بينما تتآكل القوّة الأمريكية بضرَبات متفرّقة من وكلاء متعدّدين. وبينما يتساءل صُنّاع القرار في واشنطن إنْ كان الحوثيّون يُسَبّبون القلَق أصلاً، تكون الصين قد شَقّت مَمَراً آمِناً لتجارتها، وحَقّقت عَبْر الفوضى ما لم تُحَقّقه عَبْر طاولة المفاوضات.  

 

2025-09-08 11:07:09 | 38 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية