التصنيفات » مقالات سياسية

تطوّرات خطيرة تنتظر ردّاً فلسطينياً بمستواها

تطوّرات خطيرة تنتظر ردّاً فلسطينياً بمستواها

بقلم: هاني المصري
موقع العربي الجديد 
2/9/2025

أعلنَت الإدارة الأميركية رفض منح تأشيرات دخول للرئيس محمود عبّاس والوفد المُرافِق له لحضور الدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، عقاباً على سلسلة من المواقف الفلسطينية، أبرزها السعي إلى الاعتراف الأحاديّ بالدولة الفلسطينية؛ وهو مَسارٌ من المُتَوَقّع أن يكتسب زخماً كبيراً في هذه الدورة بعد إعلان عدّة دول غربية مهمّة نيّتها الاعتراف بدولة فلسطين.
... صحيح أن واشنطن اتّخذت خطوة مُشابِهة عام 1988 بعد إعلان قيام دولة فلسطين؛ لكن الفارق الجوهري أنّ ذلك كان قبل اتفاق أوسلو، الذي منَح فيه من يملك إلى من لا يستحق، وقبل الاعتراف الأميركي بمنظّمة التحرير والسلطة التي التزمت بقيود مُجحِفة لا تزال تتمسّك بها، في حين أن الحكومات الإسرائيلية نسفَت التزاماتها منذ زمن بعيد، ودفنَتها تحت الحقائق الاستيطانية والعنصرية التي تجعل أكثر فأكثر من المشروع الإسرائيلي الحلّ الوحيد المطروح عمليّاً، أي منع قيام الدولة الفلسطينية.
لا يجب أن يقتصر الردّ الفلسطيني على هذه الخطوة الأميركية على الانتقاد والمُطالَبة بالتراجع عنها، أو التفكير بخيارات عديدة للرئيس عبّاس، بل يجب أن يكون باعتماد مسار سياسي جديد مَبني على الرّهان على الشعب الفلسطيني والقوى والشعوب الحيّة التي تُناصِره على امتداد العالم، وتُناصِر الحريّة والعدالة والمقاومة والمساواة. وعليه أن يتوجّه بكلّ قوّة إلى نقل خطاب الرئيس عبّاس من نيويورك إلى جنيف، كما فعَل الرئيس الراحل ياسر عرفات. فخطورة الخطوة الأميركية أنها تأتي مُتزامِنة مع خطّة إسرائيلية للشروع في استكمال احتلال قطاع غزّة وإعادة الاستيطان فيه، ومنع عودة السلطة إليه، واستمرار جرائم الإبادة والضم والتهجير.
"إسرائيل" لم تُنشَأ فقط، ولا أساساً، لحلّ "المسألة اليهودية" كمَلجأ، بل لتلعَب دوراً وظيفيّاً في خدمة المصالح الاستعمارية الغربية في المنطقة. وتعكس مُقابَلة الوزير الإسرائيلي آفي ديختر مع قناة العربية هذا التوجّه، وأن المُستَهدَف هو الشعب الفلسطيني كلّه بدون تفريق بين مُساوم ومُقاوم، ومُقَوّمات وجوده وليس المقاومة فقط؛ إذ لم يكتفِ بتكرار الأهداف الثلاثة المُعلَنة للحرب، بل دعا صراحة إلى تهجير مليون وسبعمائة ألف فلسطيني من غزّة؛ وهو تقريباً كما قال عدد اللاجئين فيها. وقد سبَق هذا التصريح اجتماع أميركي – إسرائيلي في البيت الأبيض، حضَره جاريد كوشنر، صاحب مشروع "الريفييرا في غزّة"، وتوني بلير الذي ما زال وَفِيّاً للسياسات الأميركية والمُلَطّخة يداه بدماء أبناء العراق وأفغانستان. يترافق ذلك كلّه مع تمهيد الطريق لضمّ الضفة الغربية أو أجزاء واسعة منها، وتقويض السلطة الفلسطينية، وصولاً إلى تفتيتها إلى "إماراتٍ" سكّانيّة مُنفَصِلة بعضها عن بعض، على ما لا تتجاوز 40% من مساحة الضفة.
لم تعُد المسألة مُجَرّد إجراءات مُتَفَرّقة، بل سياسة إسرائيلية مُمَنهَجة، مالية، اقتصادية، قانونية، عسكرية، أمنيّة، لتقويض السلطة. فقد جرى التعامل مع المدن الفلسطينية المُفتَرض أنها تحت سيطرة السلطة أمنياً وإدارياً، مثلها مثل مناطق ج، المُقَرّر وفق "أوسلو" أنها تحت السيطرة الأمنية والمدنية الإسرائيلية، إلى درَجة تدمير مُخَيّمات شمال الضفة الغربية وتهجير ساكنيها وإقامة مواقع عسكرية ثابتة فيها، وتفويض الإدارة المدنيّة التابعة لوزارة الأمن بصلاحيات واسعة على حساب مؤسّسات السلطة، ما جعَلها تقف على حافّة الهاوية. لم يَعُد مطلوباً من السلطة فقط التعاون الأمني ومنع المقاومة والنأي بالنفس عمّا يجري في غزّة، ومُطالَبة حركة حماس بتسليم سلاحها ومُغادَرة الحكم، بل المطلوب استسلام كامل لشروط الولايات المتحدة و"إسرائيل" وخططهما وأهدافهما.
ولعلّ الأخطر أن خطوة منع التأشيرات تُمَثّل تمهيداً عمليّاً نحو سحب الاعتراف الأميركي بالمنظّمة والسلطة، بعدما سبقَها في فترة رئاسة ترامب الأولى إغلاق مكتب منظّمة التحرير في واشنطن، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، وإغلاق القنصلية الأميركية فيها، ووقف الدعم المالي للسلطة باستثناء الأمن. أما اللقاءات القليلة مع مسؤولين فلسطينيين، فقد اقتصرَت على ملفّات مالية، لا سياسية. كما أنه منذ أكثر من عشر سنوات، لم تُعقَد أيّ اجتماعات سياسية بين القيادة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية؛ وكذلك نادرة هي الاجتماعات الأميركية الفلسطينية، بعد أن كان الرئيس ياسر عرفات، وبعده الرئيس محمود عبّاس، ولو لفترة قصيرة، ضيوفاً دائمين لدى الإدارة الأميركية. السلطة لم تعُد "أمراً واقعاً" لا نقاش فيه؛ فهناك تيّارات داخل "إسرائيل" ترى ضرورة ترويضها أكثر، بل تغييرها؛ وأخرى ترى أنه لم تعُد هناك حاجة إلى سلطة واحدة، بل سلطات إدارية محليّة آهلة بالسكّان، ومُنفَصِلَة بعضها عن بعض، وتُقام على مساحة 40% من الأرض المحتلّة. يَجري ذلك كلّه رغم التنازلات الفلسطينية الكثيرة، التي وصلَت إلى حدّ الاستمرار بالالتزام المُجحِف وعدم تطبيق قرارات المجلسين الوطني والمركزي منذ عام 2015، المُطالِبة بوقف الالتزامات المترتّبة على "أوسلو" وسحب الاعتراف بإسرائيل.
صحيحٌ أن "إسرائيل" أصغر من أن تفرض وجودها من النيل إلى الفرات، لكنها استطاعت التوسّع في محطّات عديدة.
وجود سلطة واحدة تُمَثّل الهويّة الوطنية الفلسطينية، وتُوَحّد الضفة الغربية وقطاع غزّة، ومُعتَرف بها دولياً، وتسعى إلى الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، يُشَكّل خطَراً استراتيجيّاً على المشروع الصهيوني التوسّعي. فإسرائيل لم تُنشَأ فقط، ولا أساساً، لحلّ "المسألة اليهودية" كمَلجأ، بل لتلعَب دوراً وظيفيّاً في خدمة المصالح الاستعمارية الغربية في المنطقة، ولإبقاء دولها وشعوبها أسيرة التبعيّة والتخلّف والتجزئة. واليوم، ومع انشغال واشنطن بأولويّتها "أميركا أوّلاً" ومُواجَهتها المُتَصاعِدة مع الصين، تزداد حاجة الولايات المتحدة إلى وكيل مضمون يضمن هيمنتها في المنطقة. لذلك يجب أن تؤخَذ السياسات والمُخَطّطات الإسرائيلية التوسّعية في فلسطين والمنطقة على محمل الجدّ، حتى لو كانت لقمة كبيرة لن تستطيع "إسرائيل" هضمها فترة طويلة، هذا إذا استطاعت تحقيقها. والردّ على مُحاوَلات الاحتلال تقويض السلطة أو تغييرها لتكون سلطة عميلة، جهد وطني جماعي لتغيير السلطة ووظائفها والتزاماتها ومُوازَنتها لتكون في خدمة المشروع الوطني؛ وهذا لن يوقِف مساعي الاحتلال لتقويض أو تغيير السلطة؛ بل يجعل عملية بنائها في مُواجَهة الاحتلال، الذي لا يجب أن يُترَك له التحكّم بحياة الفلسطينيين، في صحّتهم وتعليمهم واقتصادهم والخدمات العامة المُفترَض أن تُقَدّم لهم.
... تتبنّى الحكومة الإسرائيلية الحالية مُقارَبة الاحتلال المُباشر والسيطرة العسكرية، أكثر من الهيمنة الناعمة عبر العلاقات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية والعسكرية والأمنية. ما يجري في سورية ولبنان من مُحاوَلات إقامة "مناطق آمنة" ليس مُجَرّد ضرورة أمنيّة، بل امتداد لمشروع توسّعي. ليس حديث نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى" مُجَرّد شعار انتخابي، بل عقيدة سياسية – دينية مُتَجَذّرة.
صحيحٌ أن "إسرائيل" أصغر من أن تفرض وجودها من النيل إلى الفرات، لكنها استطاعت التوسّع في محطّات عديدة: من احتلال فلسطين عام 1948، إلى احتلال الضفة الغربية وسيناء والجولان عام 1967، إلى اجتياح بيروت عام 1982، إلى التوسّع مُجَدّداً في غزّة ولبنان وسورية اليوم. ورغم انسحاباتها المُتَكَرّرة من سيناء وغزّة ولبنان، يبقى الاتجاه العام هو التوسّع، ما يجعل تهديداتها الحالية جديّة للغاية.
الأمل قائم، خصوصاً مع تفاقم أزمات الحكومة الإسرائيلية داخليّاً وخارجيّاً، وتصاعد الغضب العالمي، وتزايد عزلة "إسرائيل".
... أكتبُ هذه السطور من مدينة ديترويت الأميركية في أثناء مشاركتي في مؤتمر بعنوان "غزّة البوصلة"، حضَره وجاهيّاً أكثر من أربعة آلاف شخص، ومعهم عشرة آلاف عبر الإنترنت، مُعظَمهم من الشباب، دفَعوا تكاليف مُشارَكتهم بأنفسهم. أثبَت المؤتمر أن الشعب الفلسطيني وحلفاءه من كلّ الجنسيات والأعراق، خصوصاً من يرفعون شعارات الحرّية والعدالة ومُقاوَمة الاحتلال والظلم، جديرون بالحياة والانتصار. وتُظهِر استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة أن أكثر من نصف الأميركيين يعتبرون ما يجري في غزّة إبادة جماعيّة، وأن 60% منهم يُطالِبون بوقف توريد السلاح إلى "إسرائيل". وهذا تحوّل لا يمكن تجاهله.
الوضع صعب، والسيناريوهات السيّئة تَتصدّر المشهد. لكن الأمَل قائم، خصوصاً مع تفاقم أزمات الحكومة الإسرائيلية داخليّاً وخارجيّاً، وتصاعد الغضب العالمي، وتزايد عزلة "إسرائيل". ولا بدّ من وضع سيناريو "البَجَعَة السوداء" بالحسبان؛ وهو الحدَث غير المُتَوَقّع. وإذا حَدَث يُحدِث تأثيراتٍ كبيرة.
ما ينقص بلورة وحدة وطنية فلسطينية على أسس وطنية ديمقراطية كفاحية، إذا لم تكن مُتَوَفّرة  من أعلى إلى أسفل، فليجرِ التركيز على العمل من أسفل إلى أعلى. في الوقت نفسه، يتم العمل على إيجاد نوع من التفاهم والتكامل الوطني على ما يُمكِن التفاهم حوله، إذا كانت الوحدة مُتَعَذّرة حالياً. فالوحدة، في نهاية الأمر، وحدها قادرة على توحيد الشعب، وهي قانون الانتصار، والقادرة على قيادة الحراك العالمي نحو تحقيق أهدافه في الحريّة والعودة وتقرير المصير والاستقلال.

2025-09-04 13:00:12 | 18 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية