التصنيفات » مقالات سياسية

العلاقات الأوروبية -العربية.. فُرَص إحياء الشّراكات لا المَظالم

العلاقات الأوروبية -العربية.. فُرَص إحياء الشّراكات لا المَظالم

نبيل فهمي
وزير الخارجية المصري الأسبق

مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدّمة

22/8/2025

تُمَثّل العلاقات بين أوروبا والعالم العربي أحد أهم المُحَرّكات الجيوسياسية التاريخية والأطول أمَداً؛ إذ تمتدّ لقرون من الاستعمار والصراع والتجارة، بالإضافة إلى التفاعل والتعاون الاجتماعي والاقتصادي. فخلال العصور الوسطى، أسهَم انتشار الإسلام في أوروبا بشكل كبير في تطوير الدول الأوروبية في مجالات العلوم والفنون والفلسفة وغيرها من التخصّصات. كما ترَك الاستعمار الأوروبي بالقرنين التاسع عشر والعشرين أثَراً كبيراً ومستمراً، سواء سلباً أم إيجاباً، على المجتمعات العربية، وأسهَم في تشكيل النُظُم السياسية والاجتماعية والاقتصادية بها.
 بعد الحرب العالمية الأولى، قامت القوى الأوروبية تاريخياً بإدارة أجزاء من الشرق الأوسط من خلال "انتدابات عصبة الأمم"، مُحَدّدةً بذلك المشهد، ورسَمت حدود بلاد الشام. ومن الجوانب الحسّاسة للغاية في العلاقات الأوروبية - العربية، الدور التاريخي لأوروبا في الصراع العربي - الإسرائيلي؛ إذ أيّد "وعد بلفور" البريطاني (1917)، إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
أما اليوم، فلا تزال أوروبا والعالم العربي مُرتَبطين جغرافياً، واقتصادياً. وبينما لم تشهد العلاقات بين الجانبين في حقَبة ما بعد الاستعمار توتّرات مُفاجئة أو كبيرة، إلّا أن الدول في الجانبين سعَت في العقود الأخيرة إلى إعادة تعريف الشراكة على أساس المصالح المشتركة بدَلاً من الانزواء في دوّامة المَظالم التاريخية. ومع ذلك، لا تزال المصالح الوطنية المُباشرة ومُخَلّفات الماضي الاستعماري راسخة بالذاكرة.
ويرتبط الاتحاد الأوروبي باتفاقيّات تجارية مع العديد من الدول العربية، مثل: المغرب وتونس والأردن ومصر، في إطار "الشراكة الأورومتوسطية" (يوروميد). وقد وَسّع علاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي كذلك. وتُعَدّ أوروبا من أهم الشركاء التجاريين للعالم العربي، بينما يُمَثّل العالم العربي مَورداً رئيسياً للنفط والغاز بالنسبة لأوروبا. ومع سعي الاتحاد الأوروبي نحو الطاقة المتجدّدة؛ تعمل الدول العربية على تطوير مشاريع في مجالي الهيدروجين الأخضر والطاقة الشمسية لإتاحة آفاق جديدة للتعاون بين الجانبين.
وتستثمر صناديق الثروة السيادية العربية بكثافة في الأسواق الأوروبية، بينما تُشارِك الشركات الأوروبية في مشاريع بنية تحتيّة كبرى في جميع أنحاء العالم العربي. ويُشَجّع كلا الجانبين الابتكارات التكنولوجية لتعزيز إمكانات إقامة مشاريع مشتركة في مجالات التكنولوجيا الماليّة والتجارة الإلكترونية والذكاء الاصطناعي؛ حيث تستضيف الجامعات الأوروبية آلاف الطلّاب العرب، بينما تجذب المؤسّسات العربية العديد من الباحثين الأوروبيين. كما يُسهِم العديد من المِهنيّين العرب في قطاعات الرعاية الصحيّة والهندسة وتكنولوجيا المعلومات بأوروبا؛ وهي عناصر أساسية للنموّ الاقتصادي بها. وفي المُقابِل، تُرسِل الجاليات العربية المُقيمة بأوروبا مليارات الدولارات كتحويلات ماليّة لأوطانها؛ ممّا يدعم الاستقرار الاقتصادي هناك.
تهديدات مُشترَكة:
لكن على صعيد آخر، أدّت الحرب الأهليّة السورية وعدم الاستقرار في شمال إفريقيا عامّةً إلى زيادة حجم الهجرة إلى أوروبا؛ ممّا أجَجّ المشاعر المُعادِية، وساعد على زيادة التوتّرات الاجتماعية، وأسهم في تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا وعملية التمييز ضدّ المُهاجِرين العرب. وقد يحدّ التعاون بشأن مَسارات الهجرة القانونية من الهجرة غير الشرعية والإتجار بالبشر، ويُخَفّف بدوره من حدّة ظاهرة الإسلاموفوبيا والتمييز ضدّ المُهاجِرين العرب.
تُواجِه كلّ من أوروبا والعالَم العربي تهديدات من التطرّف والجرائم الإلكترونية وعدم الاستقرار الإقليمي؛ ممّا يستلزم التعاون وبذل الجهود المشتركة لمُكافَحة الإرهاب من خلال منظّمات مثل "التحالف العالمي ضدّ داعش". وتتعاون الدول الأوروبية والعربية في إعادة الإعمار بعد الصراعات في سوريا وليبيا واليمن، بالإضافة إلى حماية طُرُق التجارة في البحرين الأبيض المتوسّط والأحمر من القرصنة والتوتّرات الجيوسياسية.
ويجب على أوروبا والعالَم العربي أن يُدرِكا أن البحر الأبيض المتوسّط يَجمعهما؛ ممّا يُلزِمهما بمُحاوَلة علاج القضايا السياسية ومسائل النزاعات بشكل مُشتَرك، مع التركيز على تنويع العلاقات التجارية بما يتجاوز مشاريع الطاقة، داعمين بذلك الصناعة والإنتاج العربي من ناحية، والاستثمار الأوروبي بالمشاريع المُستَدامة من ناحية أخرى.
كثيراً ما تَتَسبّب الاختلافات في النُظُم السياسية، والتفاوتات الاقتصادية، وسوء الفهم الثقافي، في حدوث توتّرات أو اضطرابات في العلاقات العربية -الأوروبية. وينتقد العرب الأوروبيين بسبب خطابهم المُتَعالي المُنطلِق من منصّة مُتَفَوّقة مُفتَرَضة؛ وهو خطاب نادراً ما يلتزم به الأوروبيون عندما ينتهك حلفاؤهم مبادئه. وتُعَدّ إسرائيل خير مثال على ذلك. 
 إن الصراع الفلسطيني -الإسرائيلي هو أحد أكثر القضايا إثارة للانقسام في علاقات أوروبا بالعالم العربي، مع أن موقف أوروبا أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية مُقارَنةً بالولايات المتحدة. فالاتحاد الأوروبي يُمَوّل مشاريع تنمويّة مختلفة بالضفة الغربية وغزة، وهو داعمٌ رسميٌ لحلّ الدولتين. وتعترف بعض الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، وإن كانت بعض الدول الأخرى تدعم إسرائيل بقوّة.
 وقد فرَضت عدّة دول أوروبية قيوداً على شحنات الأسلحة التي تُمَوّل بها إسرائيل، بينما لا تزال دول أخرى مُتَحَفّظة. ومؤخّراً، رَحّب بيان مشترك صادر عن 28 وزير خارجية، من بينهم عدد من المسؤولين الأوروبيين، بالدعوة إلى إنهاء الحرب في غزة وتسهيل دخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. ولكنّ تَرَدّد العديد من الدول الأوروبية في مُحاسَبة إسرائيل بشكل أكثر حزماً على توسعها الاستيطاني والفظائع التي ترتكبها ضدّ الفلسطينيين بغزة، قد أضعَف مصداقيّة أوروبا بالعالم العربي، واعتُبِر دليلاً على عدم فعاليّة الدبلوماسية وتذبذب المبادئ.
 في أعقاب المؤتمر الذي بادَرت إليه المملكة العربية السعودية وفرنسا في أواخر يوليو الماضي لتمكين إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل، أصبح واجباً على دول الاتحاد الأوروبي اتخاذ المزيد من الخطوات، فردياً وجماعياً، نحو إقامة دولة فلسطينية ضمن حلّ الدولتين، ورفض الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي. فالسعي لتحقيق السلام العربي - الإسرائيلي يخدم المصالح الأوروبية والعربية على حدٍ سواء، ويجب ألّا يُترَك للولايات المتحدة وحدها. 
احتياج مُتَبادل:
يُقال إنه يُمكِنك أن تختار أصدقاءك، ولكن ليس بإمكانك أن تختار عائلتك. ومن الناحية الجيوسياسية، ليس بإمكانك أن تختار جيرانك إلّا إذا كنتَ مُستَعداً لمُغادَرة وطَنك. والبحر الأبيض المتوسط ليس حاجزاً، بل جسر مُتَدَفّق يربط الشعوب والمُنتَجات والأفكار. وهكذا ففي عالَمنا شديد الترابط اليوم، نجد أن ما يقع في شمال هذا البحر أو جنوبه؛ سرعان ما ينتقل إلى ضفافه المُقابِلة وينعكس عليها. 
وبفضل القُرب الجغرافي، تبقى العلاقات بين أوروبا والعالم العربي أزليّة، سواء في السرّاء أم الضرّاء. ومن الناحية الاستراتيجيّة، فإن أوروبا والعالم العربي يحتاجان إلى بعضهما بعضاً والمُشارَكة البنّاءة من كلا الجانبين، بدَلاً من اللامبالاة أو الرفض أو التدابير العقابيّة القسريّة؛ هي السبيل الأمثَل للمضي قُدُماً.
تقف العلاقات اليوم بين أوروبا والعالَم العربي عند مُفتَرق طُرُق. فبينما لا تزال المَظالم التاريخية والتحديّات المُعاصِرة قائمة؛ فإن إمكانات التعاون المُتبادَل المنفعة هائلة. ولا يزال الصراع العربي - الإسرائيلي حجر عثرة رئيسي في علاقات الجانبين.
 ومن خلال مُعالَجة الفوارق الاقتصادية والتهديدات الأمنية وسوء الفهم الثقافي، والتعامل بحِكمة مع تعقيدات القضية الفلسطينية، يُمكِن للعالَم العربي وأوروبا بناء شراكة قائمة على الازدهار المُشتَرك والاستقرار المُتَبادَل والتعاون الفعّال. وعلى الجانبين - في عالم اليوم المُتَداخِل والمُتَشابِك بشكل مُتَزايد - أن يَنسِجا رؤية مشتركة لمنطقة عربية أوروبية مستقرّة وآمنة، قائمة على احترام راسخ وثابت للقانون الدولي، خاصّةً في العلاقات بين الدول. ويجب عليهما كذلك تخطّي الانقسامات بشكل استباقي وحازم، مع اغتنام كلّ فرصة للتعاون والتضامن؛ فاللامبالاة والتسويف والمَعايير المُزدَوجة ستؤدّي لا محالة إلى ضياع الكثير من الفُرَص، وستكون لها عواقب وخيمة على دول المَنطِقتين وما وراءهما. 

2025-09-04 12:56:54 | 19 قراءة

مركز باحث للدراسات الفلسطينية والاستراتيجية